امتزج الاحتجاج السياسي بالاقتصادي في ثورة الشعب المصري، ورفع المتظاهرون مطلب العدالة الاجتماعية في مقدمة أهداف الثورة، من أجل تقويض الإطار الاقتصادي الموروث من عهد مبارك ، ووضع إطار اقتصادي جديد يعطي الحقوق الاقتصادية والاجتماعية لعموم المصريين. ولكن خلال الثمانية عشرة شهر الماضية ساءت الأحوال الاقتصادية شيئا فشيئا، وسط غياب تام لرؤية اقتصادية واضحة للدولة للخروج من عنق الزجاجة.

الدكتور فخري الفقي أستاذ الاقتصاد بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، ونائب المدير التنفيذي لصندوق النقد الدولي سابقا، كشف لنا عن طبيعة الوضع الاقتصادي الراهن والتحديات التي تواجه الرئيس مرسي، معبرا عن دهشته لتولي الدكتور هشام قنديل وزير الري السابق لمنصب رئيس الوزراء، كما كشف أن المناخ الاستثماري بمصر أصبح محبطاً للغاية، وأدي إلى خسارة نحو 10 مليار دولار كاستثمارات مباشرة. وإلى نص الحوار.

س: ما هي الملامح العامة للاقتصاد المصري قبل ثورة 25 يناير؟

ج: الاقتصاد المصري منذ نهاية السبعينات حتي ثورة يناير مر بالعديد من المراحل، حيث كانت البداية مع الانفتاح الاقتصادي بعد حرب اكتوبر 1973، ووضع قانون الاستثمار وتشجيع رأس المال العربي والأجنبي على الدخول في الاقتصاد المصري، ثم جاء مبارك بمؤتمر اقتصادي موسع في بداية الثمانينات، تبعها المرحلة الثالثة مع حكومة الدكتور عاطف صدقي في التسعينيات التي أعادت هيكلة الاقتصاد الوطني، ثم جاءت المرحلة الأخيرة في عام 2005 مع وضع برنامج إعادة الهيكلة، فالفلسفة العامة للاقتصاد كانت قائمة علي تعزيز دعائم الاقتصاد بمعنى أن يكون قائم علي السلع والخدمات، وتنويع المصادر إلى جانب الاستثمارات الأجنبية المباشرة التي وصلت إلى 13مليار دولار في عام 2008 .

ولكن الاقتصاد المصري كان به سلبيات فادحة وهي من الأسباب الضمنية لقيام ثورة يناير، مثل سوء إدارة الاقتصاد، حيث كانت أموال المصريين تصب في جيوب شريحة محددة من رجال الأعمال ذو الصلة بالنظام السابق، إلى جانب ضعف الأجهزة الرقابية بما فيها البرلمان والجهاز المركزي للمحاسبات، مما أدى إلى انتشار الفساد المالي واستنزاف أموال المصريين، وإهمال البعد الاجتماعي فأصبح 40% من المصريين تحت خط الفق، أي ما يقرب من 2 دولار يوميا،إضافة إلى 25% يعيشون في فقر مدقع، أي أقل من دولار يوميا.

س: عقب انتهاء المرحلة الانتقالية وصل تيار الإسلام السياسي إلى رأس السلطة التنفيذية في مصر. هل يمكن أن يتحول الاقتصاد المصري إلى اقتصاد إسلامي؟

ج: هذا تحدي هام للغاية يواجه رئيس الجمهورية الحالي باعتباره ينتمي إلى حزب الحرية والعدالة ذي التوجهات الإسلامية. ولابد أن يكاشف الشعب ويعلن موقفه من طبيعة الاقتصاد المصري، وخاصة السياحة ودور المرأة والمنظومة المالية و المصرفية، ولكن حتى الآن لم يعلن الرئيس موقفة فيما يتعلق بهذه النقاط. عموما من المفيد أن لا نلون الفلسفة الاقتصادية سواء بالأبيض”اقتصاد حر” أو الأخضر”إسلامي” أو الأحمر”يساري”، ولكن أتصور أن من الممكن الجمع بين هذه الأطياف الثلاثة في اقتصاد يمكن تسميته اقتصاد حر منظبط.

ولكني أرى أن تأخير إعلان حزب الحرية والعدالة ورئيس الجمهورية عن طبيعة الاقتصاد الذي سينتهجه يثير قلق قطاع نشاط الأعمال في الداخل والخارج، كما يوحي بوجود خارطة طريق لتحويل الاقتصاد المصري إلى اقتصاد إسلامي بصورة متدرجة وغير محسوسة.

س: كيف تري المناخ الاستثماري في مصر الآن بعد انتهاء المرحلة الانتقالية ووصول الدكتور مرسي إلى الحكم ؟

ج: البيئة الاستثمارية بمصر محبطة للغاية وتحتاج إلى جهود ضخمة جدا لإعادتها مرة أخرى نظرا لأسباب عديدة منها عدم الاستقرار الأمني والسياسي والإضرابات والاعتصامات، والانقسام السياسي، وعدم وجود خطة اقتصادية للدولة، وعدم استكمال بناء الدولة من حيث الدستور والبرلمان، وعدم الوصول إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي. فكل هذه النقاط تعطي صورة غير مشجعة للمناخ الاقتصادي والاستثماري. وكلما استمرت هذه الحالة كلما تحولت الاستثمارات التي تستهدف مصر إلى دول أخرى، إضافة إلى خروج عدد من رجال الأعمال المصريين من السوق المصرية للاستثمار في دول خارجية، لذلك فخسائر الاستثمار المباشر في مصر منذ الثورة وحتي الآن بلغ نحو 10 مليار دولار، وإجمالي الخسارة التي لحقت بالاقتصاد المصري تقريبا خلال 18 شهر الماضية هي 10% خسائر في معدل النمو، إضافة إلى الفرص الضائعة على الاقتصاد المصري خلال نفس الفترة، لنصل إلى إجمالي خسائر بلغت 35 مليار دولار.

س: بوصفك كخبير اقتصادي كيف استقبلت خبر تكليف الدكتور هشام قنديل وزير الري بمنصب رئيس الوزراء؟

ج: في تصوري انه كان قرارا على عكس التوقعات ومحبطا لكثير من قطاعات نشاط الأعمال ومجتمع الأعمال ككل في الداخل والخارج. فالقرار وضع علامات استفهام عديدة، فقد كان التوقع أن من سيأتي رئيسا للحكومة سيكون ذو خلفية اقتصادية ومالية أو مرتبطا بها، فأنا أتساءل ما علاقة الري بالأزمة الاقتصادية الحالية التي تمر بها مصر.

س: جماعة الاخوان ذات توجه اقتصادي رأسمالي، والثورة طالبت بالعدالة الاجتماعية كأهم مطلب لها، من وجهة نظرك كيف سيتحقق هذا المطلب في ضوء هذا التوجه الرأسمالي؟

ج: بداية نحن ننتظر إعلان هوية الاقتصاد المصري، وهذا تحدي هام كما ذكرت سابقا أمام رئيس الجمهورية. ثانيا لكي نستطيع أن نحقق هذا المطلب الهام، ففي اعتقادي أننا نحتاج إلى اقتصاد حر منضبط يركز علي ثلاثة أبعاد، الأول هو أن يكون اقتصاد ذو بعد اجتماعي ليهتم بأصحاب الدخول المتدنية، ثانيا أن يكون اقتصاد أخلاقي بمعني غير مفسد وملتزم بتعاليم الأديان السماوية، ثالثا الالتزام بأخلاقيات المهنة والاقتصاد مع حسن إدارة المخاطر التي نعيش فيها مع عصر العولمة. ولكن إذا لم يهتم القائمين علي إدارة الاقتصاد بشبكة الأمان الاجتماعي، وانسياب فوائد النمو إلى أسفل وليس إلى طبقة محددة، فسينحرف الاقتصاد مرة أخرى ويعود إلى ما كان علية قبل ثورة يناير.

س: منذ عام 1970 حتي عام 2004 تم تهريب نحو 70 مليار دولا أمريكي من مصر طبقا لتقرير الشفافية المالية الدولي، إضافة إلى الأموال التي تم تهريبها من مصر خلال فترة الثورة . هل هناك سبيل لعودة تلك الأموال إلى مصر مرة أخرى؟

ج: لا مانع من السعي الحثيث لاسترداد هذه الأموال المهربة إلى الخارج، ولكن يجب أن لا نغالي في التفاؤل، فأنا لا اعتقد أننا سوف نسترد ما لا يزيد عن 20% أو 25% من تلك الأموال المهربة نظرا للعمولات التي سوف يتم خصمها لصالح الشركات الوسيطة، وهذه الإجراءات سوف تأخذ من خمس إلى عشر سنوات.

س: ما تقييمك لسعي الحكومة الحالية للاقتراض من صندوق النقد الدولي؟ وماهي مميزات وعيوب مثل هذا القرض؟

ج: بداية فإن الاقتراض من الصندوق هو البديل الأكثر جدوى وجودة في الوقت الحالي. فالبدائل الأخرى أكثر تكلفة، مثل طرح أذون خزانة باليورو أو الاقتراض من المصارف بنسبة فائدة وصلت إلى 16%، لذلك فالقرض أقل تكلفة حيث فائدة التسهيل الائتماني بالمصاريف الإدارية بلغ 1.1%، ويسدد خلال ثلاث إلى خمس سنوات مع فترة سماح ثلاث سنوات من توقيع الاتفاق.

ثانيا التفاهمات التي تتم بين الحكومة والصندوق تسمي”تسهيل إئتماني” وليس قرضا، بمعنى أن الحكومة المصرية وفقا لهذه التفاهمات ستحصل على 4.8 مليار دولار علي عدة شرائح مختلفة، وبنسبة 1.1% فائدة علي كل شريحة تسحب من الصندوق وليس على إجمالي المبلغ، وبالتالي إذا تعافى الاقتصاد بعد سحب الشريحة الأولي أو الثانية فيمكن أن نتوقف عن سحب باقي المبلغ دون الالتزام بفوائد إجمالي المبلغ المتفق عليه، مثلما حدث في عام 1991 وتوقفت مصر عن سحب باقي المبلغ بعد أن عادت معدلات النمو مرة أخرى.

ثالثا مصر عضو مؤسس في الصندوق منذ تأسيسه في عام 1945 وبالتالي من حقها الاستفادة من الأموال غير المستغلة في الصندوق والتي تبلغ 1.6 مليار دولار، كما أن الصندوق به 188 دولة والموافقة على هذا القرض ستشكل شهادة ثقة وضمان للاقتصاد المصري.

أما بالنسبة للعيوب فلا توجد عيوب، لكن يوجد محاذير مثل البرنامج الاصلاح الاقتصادي والمالي الذي سوف يوضع بالاتفاق مع الصندوق. إذ يجب أن يضعه خبراء مصريون وأن يراعي بدقة وضع محدودي الدخل، ولا يشمل أي بنود تضر بمحدودي الدخل ويجب أن يكون لدي حكومة الدكتور هشام قنديل آليات لتنفيذ ذلك.

ثانيا لو فشلت الحكومة في مراعاة مصالح محدودي الدخل فمن الممكن أن ينشأ رفض شعبي، ويترجم في صورة مظاهرات سوف تعود بالوضع الاقتصادي إلى المربع صفر وبالعكس سيكون الوضع الاقتصادي عندئذ أصعب من الوقت الحالي.

ثالثا :يجب مراعاة سعر صرف الجنيه مقابل الدولار لأنه إذا تم الاتفاق على قيمة القرض وبعد ذلك ارتفعت قيمة الدولار أمام الجنيه فإن ذلك سوف يؤدي إلى ارتفاع قيمة سداد القرض بما يمثل عبئا كبيرا على الدولة، لذلك يجب على الحكومة أن تضع نصب أعينها استقرار سعر صرف الجنيه.