القانون الفيزيائي يقول: لكل قوة فعل قوة رد فعل، مساوية لها في المقدار ومعاكسة لها في الاتجاه… أما منطق التجربة التاريخية فتقول: لكل ثورة ثورة مضادة. تنجح أو تفشل بحسب معطيات وقائعها وظروف تحولاته.

الملكية التي أسقطتها الثورة الفرنسية العام 1789 عادت للحكم في ثوب جديد بعد ربع قرن. الثورة المضادة للثورة البلشفية الروسية 1917 لم يخمد أوارها إلا بعد ثلاث سنوات وقد أدت إلى موت ثلاثة عشر مليون نسمة بسبب القتال والمجاعة.

القانون الفيزيائي يقول: لكل قوة فعل قوة رد فعل، مساوية لها في المقدار ومعاكسة لها في الاتجاه… أما منطق التجربة التاريخية فتقول: لكل ثورة ثورة مضادة. تنجح أو تفشل بحسب معطيات وقائعها وظروف تحولاته.

الملكية التي أسقطتها الثورة الفرنسية العام 1789 عادت للحكم في ثوب جديد بعد ربع قرن. الثورة المضادة للثورة البلشفية الروسية 1917 لم يخمد أوارها إلا بعد ثلاث سنوات وقد أدت إلى موت ثلاثة عشر مليون نسمة بسبب القتال والمجاعة.

وإذا تبصّرنا بالتحليل في وقائع “ثورات” ما يسمى “الربيع العربي”، نجد أن الثورة المضادة حاضرة بأساليب متباينة بتباين وقائعها في تونس ومصر وليبيا واليمن. في تونس تسللت سياسياً مع حركة “نداء تونس”. في مصر احتضنها انقلاب السيسي. في اليمن فجرت حرباَ أهلية من خلال تحالف قوات مسلحة تابعة للرئيس المخلوع عبد الله صالح وميليشيات الحوثي في مواجهة السلطة الشرعية للرئيس عبد ربه هادي.

أما في ليبيا (حيث يحدث في ليبيا فقط) فقد تعددت “الثورات” و”الثورات المضادة”. مع ملاحظة أن المفهوم التاريخي المنهجي لمعادلة الثورة والثورة المضادة لا يمكن الإقرار بحركيتها في المشهد الليبي. فالثورة بالمفهوم التاريخي يمهد لها فكر ثوري مؤثر اجتماعياً. ما حدث في 17 فبراير 2011 موضوعياً كان انتفاضة شعبية عفوية، تنادى إليها، في الأصل، شباب غير مؤدلج وغير منتمٍ سياسياً. كانوا ينادون بالحرية التي تعني نقيض حكم الطغيان الفردي. وعندما تحولت الانتفاضة إلى ثورة مسلحة التحق بها ناس عاديون وضباط وجنود منشقون من الجيش والشرطة، وشكّل الإسلاميون (الجماعة الليبية المقاتلة (قاعدة) وسلفيون جهاديون والإخوان المسلمون) كتائب قاتلت في الجبهات. كانوا منذ البداية ضد قوات الجيش التي يقودها وزير داخلية القذافي المنشق اللواء عبد الفتاح يونس.

ومعروف أن جماعة إسلامية متطرفة قامت بخطفه ثم قتله وحرق جثته. ولم تكن عميلة قتله البشعة بدافع الانتقام منه لكونه (أحد رموز نظام القذافي حتى وإن انشق) فحسب، إنما لأنه، كما اتضح فيما بعد من الوقائع والمعلومات المتوفرة، كان يعمل على بناء جيش نظامي من الضباط والجنود الذين لم يقاتلوا مع كتائب القذافي الأمنية.

ولم يكن تحالف كتائب الإسلاميين يرمي إلى إسقاط نظام القذافي فحسب، إنما كانوا يخططون للسيطرة على السلطة بعد ذلك وبدعم قوي من قطر وتركيا. وسياسياً تواجدوا بقوة مؤثرة في المجلس الوطني الانتقالي والحكومة المؤقتة التي تشكلت بعد التحرير وهيمنوا على إدارات الدولة ومؤسساتها الاقتصادية والمالية والإعلامية في ظل سيطرة ميليشياتهم على طرابلس ومصراتة واجدابيا وبنغازي ودرنة.. كما هيمنوا على المؤتمر الوطني العام المنتخب من خلال “كتلة الـ94” التي كان يرأسها القاعدي عبد الوهاب القايد، واعتبروا كتلة “تحالف القوى الوطنية” التي يقودها الدكتور محمود جبريل، وتدعمها ميليشيات الزنتان، تمثل ثورة مضادة.

كما أطلقوا تسمية “الثورة المضادة” على الحراك المدني الواسع ضد التمديد للمؤتمر الوطني العام بعد انتهاء ولايته الدستورية في السابع من فبراير 2013. لكن الحراك نجح في استحقاق انتخابات مجلس النواب في السابع من يوليو 2014 التي أظهرت نتائجها هزيمة كاسحة للإسلاميين. فنفذوا عملية انقلاب مسلح باسم “فجر ليبيا”عمادها ميليشيات مصراتة.

إذ هاجموا العاصمة طرابلس في يوليو 2014 ودخلوا في حرب طاحنة مع ميليشيات الزنتان، انتهت بانسحاب الأخيرة خارج حدود طرابلس الكبرى. وعلى الفور قام تحالف “فجر ليبيا” بإحياء المؤتمر الوطني العام المنحل وشكل حكومة تابعة له. وهكذا انقسمت البلاد سياسياً بين الغرب والشرق (برلمانين وحكومتين وبنكين مركزيين).

في بنغازي كوّن خليفة حفتر قوة عسكرية من الجيش النظامي ومسلحين مدنيين مساندين، وأطلق عملية حربية سماها “عملية الكرامة” ضد الميليشيات الإسلامية المسيطرة على مدينة بنغازي، والمسؤولة، في نظر الرأي العام، عن عمليات الاغتيال بحق المئات من عناصر الجيش والشرطة والنشطاء السياسيين والمدنيين والإعلاميين. وإذا كانت ميليشيات “فجر ليبيا”، بالنسبة لمجلس النواب المنتخب، فئة مارقة انقلبت على نتائج الانتخابات واحتلت العاصمة، فإن “فجر ليبيا”، بحسبانها كما تقدم نفسها الوصية على “مبادئ وأهداف 17 فبراير”، ترى في “عملية الكرامة” ثورة مضادة وحركة انقلابية تريد العودة بالبلاد إلى العهد السابق.

في خضم هذه الوقائع المتداخلة سياسياً وعسكرياً، جاء اتفاق الصخيرات برعاية الأمم المتحدة لاجتراح صيغة حل توفيقي يتصور أنه من خلال تخليق مؤسسة “المجلس الرئاسي” ومؤسسة “مجلس الدولة الاستشاري” إلى جانب وجود “مجلس النواب” يمكن إيجاد توافق مقبول بين المتنازعين. لكنه انكشف أنه حل تلفيقي سريع العطب زاد الوضع السياسي المأزوم تأزيماً.

اعتبر الإسلاميون المتشددون المهيمنون على طرابلس وعلى رأسهم المفتي الصادق الغرياني المجلس الرئاسي لحكومة التوافق مشروعاً دولياً مضادا لـ” ثورة 17 فبراير”. ورفضته القوى المهيمنة على شرق ليبيا (مجلس النواب) لأنه يستهدف إقصاء الجنرال حفتر بصفته القائد العام للجيش الليبي، فامتنع عن تضمين “اتفاق الصخيرات” في الإعلان الدستوري وحجب الثقة عن حكومة المجلس الرئاسي. فنهض “مجلس الدولة الاستشاري” الذي شكل نفسه بنفسه قبل تضمين الاتفاق السياسي دستورياً، ليعلن على لسان رئيسه عبد الرحمن السويحلي بأن “مجلس الدولة” مضطر أن يتولى المهام التشريعية كاملةً حتى ينعقد مجلس النواب ويقر الاتفاق السياسي .

وليظهر بعده “المفتي” الغرياني ليعلن عن وجود وثيقة دستورية تدعو لتشكيل مجلس للأمة لقيادة البلاد. ليتبين بعد ذلك أن المقصود تشكيل مجلس قيادي للثوار الإسلاميين الجهاديين من الميليشيات الإسلامية المتشددة والمتواجدة في طرابلس وجنزور وصبراتة والزاوية والغريان بالأساس وإليها بعض ميليشيات مصراتة. أي أنه مشروع انقلابي في مواجهة مشروع المجلس الرئاسي المحمي بميليشيات سوق الجمعة وتاجوراء وبوسليم، داخل دائرة التنازع الداخلي على السلطة في العاصمة.

والحاصل أنه، من خلال تفحص وقائع فوضى الواقع الليبي الغرائبي سياسياً وحربياً، لا حل يُرتجى من كوبلر ومن ورائه من أمريكان وبريطانيين ما لم يدركوا أن التنازع على السلطة أصبح محصوراً بين القوى السياسية والعسكرية في شرق ليبيا وتسيطر على أهم آبار النفط والموانئ النفطية الرئيسة كاملة، مقابل القوى الإسلامية المتحكمة بغرب ليبيا والتي لم يعد بيدها من ورقة قوة سياسية ضاغطة سوى المصرف المركزي، فيما أنهكت الحرب على تنظيم الدولة في سرت القوة العسكرية لمصراتة التي فقدت أكثر من ستمائة قتيل والآلاف من الجرحى…

وبالتالي فإن الحل، إذا ما كان هناك إمكانية لحلّ في مثل هكذا وضع، فإنه بالضرورة لا بد أن يعتمد على فهم طبيعة الصراع في شكله القائم بين غرب البلاد وشرقها بقواتهما المسلحة وقبائلهما وقياداتهما السياسية والمجتمعية المدنية. الأمر الذي يكشف عطالة إختلاق حلّ “اتفاق الصخيرات” على مبعدة آلاف الكيلومترات، بالاعتماد على لجنة حوار معظمهم أصحاب جنسيات غربية.