النظرة السلبية إلى الزواج المختلط (أي الزواج من أجنبي/أجنبية) مرجعها من منظور عربي (اجتماعي/ثقافي) يعود إلى الذهنية القبلية ما قبل الإسلام التي تنبذ الزواج من خارجها، وتحديداً زواج المرأة من خارج قبيلتها.

وحتى داخل القبيلة تعتبر الفتاة زوجة محجوزة مسبقاً لابن عمها، فهو يملك عقدها وحلها، وإذا لم يرغب في تزوجها يحل لها الزواج من غيره من داخل القبيلة.

هذه الذهنية الاجتماعية القبلية استمرت رغم قيم الإسلام المنافية لها فاعلة حتى الآن في كثير من المجتمعات العربية ذات البنية القبلية ومن ذلك المجتمع الليبي.

في السبعينات، مع تحول ليبيا إلى دولة نفطية ثرية وتَشكّلِ المدن الكبيرة وانتشار تعليم المرأة على نطاق واسع، تراجعت ذهنية الزواج القبلي المنغلقة، لكن برزت في صيغة استهجان اجتماعي لزواج الليبي من غير ليبية، وغضب على زواج الليبية من غير ليبي.

كان ينظر (اجتماعياً) لمن يتزوج من مصرية كما هو الحال في شرق ليبيا أو تونسية كما هو الحال في غربها على أنه زواج درجة ثانية، وهي حالات زواج مثلت ظاهرة اجتماعية واسعة نتيجة ظروف غلاء المهور وتكاليف الزواج المرهقة، أما حالات الزواج من أجنبية من ديانة غيرة إسلامية – وإن أسلمت – فكانت ولا تزال حالاتٍ محدودة جداً.

هذا على أرض الواقع الاجتماعي على عكس النص الدستوري لدولة الاستقلال 1951 ـ 1969 الذي تمت صياغته بإشراف الأمم المتحدة، فجاء دستوراً ديمقراطياً ليبرالياً متقدماً على دساتير المنطقة العربية في تلك المرحلة، إذ اتُخذ من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان مرجعية تشريعية لمواده الحقوقية، متجاوزاً بذلك ثقافة وتقاليد مجتمع ليبي بدوي تغلب عليه الأمية، لكنه كان قابلاً للتغيير والتكيف مع مقتضيات العصر الحديث.

اعتبر الدستور الملكي الليبيين لدى القانون سواء، وهم متساوون في التمتع بالحقوق المدنية والسياسية، وفي تكافؤ الفرص وفيما عليهم من الواجبات والتكاليف العامة، لا تمييز بينهم في ذلك بسبب الدين أو المذهب أو العنصر أو اللغة أو الثروة أو النسب أو الآراء السياسية والاجتماعية، وبالتالي اعتُبر ليبياً كل شخص مقيم في ليبيا وليس له جنسية أو رعوية أجنبية إذا توفر فيه أحد الشروط الآتية:

1- أن يكون قد ولد في ليبيا.

2- أن يكون أحد أبويه ولد في ليبيا.

3- أن يكون قد أقام في ليبيا مدة لا تقل عن عشر سنوات إقامة عادية.

النقاط السابقة أجازت لزوج الليبية الأجنبي أو زوجة الليبي الأجنبية الحصول على الجنسية الليبية، واعتبار أبناء زواج الليبية من أجنبي ليبيين بحكم جنسية أمهم.

لكن الزواج المختلط في العهد الملكي لم يكن ظاهرة منتشرة إنما حالات محصورة، كما لم يكن زواج الليبي من أجنبية يحول دون توليه مناصب حساسة عسكرية أو مدنية، فلم تسد نزعة التشكيك الأمني في الولاء الوطني للمسؤول الليبي المتزوج من أجنبية كما كان سائداً في ظل نظام انقلاب القذافي العسكري ودولته الجماهيرية، حيث انعدم وجود دستور بالمعنى المتعارف عليه وإنما تشريعات قانونية تستمد مصدرها من إيديولوجية “الكتاب الأخضر” الذي ألفه القذافي، علاوةً على ما يصدر عن شخصه من توجيهات وتعليمات حتى وإن كانت شفوية.

في عهد القذافي ابتُكرت فئة “الجنسية العربية” من منطلق الإيديولوجيا العروبية القوموية التي يعتنقها النظام، وهذه الفئة (الجنسية العربية) تُعطى للراغبين فيها من مواطني الدول العربية مما يسمح لأبناء الليبية المتزوجة من عربي الحصول على الجنسية الليبية إذا اكتسب الزوج “الجنسية العربية”، لكن لا يُعطى هذا الحق لأبناء المرأة الليبية المتزوجة من أجنبي غير “عربي الأصل”، الذي يصعب عليه الحصول على الجنسية الليبية.

وفي الإعلان الدستوري المؤقت الذي صدر بعد الثورة على نظام القذافي 2011؛ استمر العمل بجميع الأحكام المُقررة في التَّشريعات القائمة فيما يخص حقوق الجنسية، ونتيجة لمناخ الحريات بعد سقوط النظام ظهرت بقوة منظمات وجمعيات مدنية نسوية تنشط بحيوية في مجال المطالبة بحماية حقوق المرأة الليبية ضد أشكال التمييز العنصري (الجنساني)، ومنها حقوق المرأة الليبية المتزوجة من أجنبي، وقد انكشف حجم المشاكل الهائل التي تعاني منها الليبيات المتزوجات من أجانب واللواتي بلغ عددهن 165 ألف امرأة، يطالبن بالتزام الدولة الليبية ببنود المعاهدات والاتفاقيات التى وقعت عليها، والتي تلزم الدولة الموقعة بمنح الجنسية لأبناء الزوجة ولزوجها الأجنبي.

ورغم صدور قوانين في النظام السابق لصالحهن بهذا الصدد لكن لم يُعمل بها حتى الآن، بل تدخل في قضيتهن العامل الديني الإيديولوجي ليزيد وضعهن سوءاً، وذلك من خلال المفتي الصادق الغرياني الذي يمارس سلطة الولاية الدينية على الحياة الاجتماعية والسياسية، بدعم من أتباعه في المؤتمر الوطني العام، فنجده – أي الغرياني – يطلب رسمياً من موقع سلطته الدينية الإفتائية من وزارة الشؤون الاجتماعية وقفَ إجراءات زواج الليبيات من الأجانب، سواء أكانوا مسلمين أم عرباً، وبرر ذلك بأنه تلبية لـ”الشكاوى المتكررة حول استغلال الشيعة القادمين من إيران ضعف الإدارة والوضع الأمني، وضبطِ سوريين دروز يتزوجون من أسرٍ ليبية بشكل متزايد”، وبناء على ذلك طالب الوزارة عدمَ منح الإذن لزواج الليبيات من الأجانب “إلى أن تتضحَ الأمور تحقيقاً للمصلحة العامة”.

على الفور تبنت وزارة الشؤون الاجتماعية ووزارة العدل في حكومة الإنقاذ “الإسلاموية” فتوى المفتى الغرياني، فتم الإعلان عن وضع آلية جديدة لزواج الليبيات من الأجانب، تضمن عدم إمكانية زواج الليبيات من “العلويين والدروز والشيعة”، في تحول استنساخي باختلاف المضمون من الهوس الارتيابي بالجوسسة والعمالة للأجنبي في عهدة حكم الإيديولوجيا القومجية للقذافي، إلى هوس ارتيابي ديني طائفي في عهد الإيديولوجيا الدينية للمتطرفين المهيمنين على “الربيع الليبي”.