في سبتمبر 2014 كنتُ في طرابلس عندما سيطرت ميليشيات إسلامية بالتحالف مع ميليشيات جهوية على مفاصل السلطة في عملية عسكرية تحت تسمية “فجر ليبيا”، فكثرت عمليات الاختطاف والاختفاء القسري للكثير من النشطاء السياسيين والحقوقيين والإعلاميين المعارضين لإسلاميي “فجر ليبيا”، وكنتُ واحداً من بين المختطفين.

تمت تغميتي، وسمعت الذي يقودني إلى الزنزانة يتصل بالهاتف ليقول للذي على الطرف الآخر “كل شيء تمام، الأمانة عندي” وينزع عني غطاء الرأس في الوقت الذي يدفعني فيه داخل زنزانة انفرادية ويُقفل ورائي بابها الحديدي.

لحسن حظي أطلق سراحي بعد نحو أسبوع، أذكر هذه الواقعة لأن السؤال الذي شغلني داخل الزنزانة كان “أمانة مَنْ أكون ولدى أي سجون أمراء الحرب؟!”، حيث تعددت السجون الفبرايرية بعدد المليشيات التي تدعي تبعيتها للدولة المختطفة بدورها بسلاح هذه الميليشيات وحلفائها من قيادات سياسية تدير مؤسسات السلطة وأجهزتها الحكومية.

في عهد حكم القذافي الفردي المطلق كان المعارضون يعتقلون قسرياً ويغيبون في السجون ويعذّبون ويقتلون، لكن السجان كان واحداً معروفاً للجميع وعنوانه في “باب العزيزية”، وهو كان يُقدم على شنق عدد من معارضيه في وضح النهار وأمام الملأ في الساحات العامة، بينما كان السجان الذي يأتي إليّ بوجبة الطعام والماء حريصاً ألا أراه من الكوة الضيقة في أعلى باب الزنزانة.

وعندما سألته عن مكان اعتقالي طالبني بألا أطرح أسئلة، وسوف أعرف منه بعد إطلاق سراحي أنه كان سجيناً إسلامياً في سجن “أبوسليم” وهو نفس المكان الذي سُجنت فيه، وكان مدير السجن أمير الحرب الميليشاوي المعروف صلاح البركي، وهو أيضاً كان سجيناً في السجن نفسه في عهد النظام السابق لانتمائه لتنظيم القاعدة في ليبيا، وغيره كثيرون من أمراء الحرب الجهاديين الذين كانوا سجناء في عهد النظام السابق ثم صاروا بعد “فبراير” يملكون ميليشيات بأسمائهم وسجوناً خاصة تتبعهم منتشرة في كل أنحاء ليبيا.

ولعلّ أبرز السجناء السابقين السجانين حالياً هو أمير الحرب خالد الشريف، الذي كان المسؤول الأمني في “الجماعة الإسلامية الليبية المقاتلة” الموالية للقاعدة بزعامة عبد الحكيم بالحاج، وأطلق سراحه من سجون القذافي عام 2010 وإذ به بعد ثورة 17 فبراير يصبح “وكيلاً لوزارة الدفاع”، وآمراً لسجن “الهضبة” حيث كان يقبع أبرز رموز النظام السابق.

وهكذا كما هيمنت الميليشيات الإسلامية على تركة مفاصل السلطة في عاصمة البلاد سيطرت على تركة مؤسسات السجون، فالسجناء من رموز ومؤيدي النظام السابق يمثلون غنيمة سياسية ومالية أيضاً.

والشائع أن عملية الحصول على عبد الله السنوسي من موريتانيا والبغدادي المحمودي من تونس والساعدي القذافي من النيجر جرت مقابل صفقات مالية مع الدول المذكورة التي تنفي الأمر رسمياً، وكذلك الأمر في شبهة الصفقة المالية بخصوص الإفراج عن سيف الإسلام القذافي من سجنه لدى أمير الحرب العجمي العتيري بالزنتان. وتلحق شبهات الغرض السياسي والمالي بقصص إطلاق سراح عديد من رموز النظام السابق السجناء لدواعي صحية بينما يتم الإبقاء على غيرهم.

وأثناء الصراع المسلح الذي نشب بين الميليشيات التابعة للمجلس الرئاسي وبين الجماعة الإسلامية الليبية المقاتلة وحلفائها من الجهاديين التابعين للمفتي الصادق الغرياني، تمكنت ميليشيا أمير الحرب هيثم التاجوري (ثوار طرابلس) من السيطرة على سجن الهضبة بعد دحر القوة الأمنية التابعة لخالد الشريف، الذي فرّ ناجياً بجلده متهماً خصمه (هيثم التاجوري) بأن هدفه من السيطرة على السجن هو “العمل على تهريب السجناء”، وحيث لم يتمكن التاجوري من القبض على الشريف قامت قوة تابعة له بهدم بيت الشريف.

وهكذا إذ تلاشت فكرة الدولة ومنطقها بعد “ثورة 17 فبراير” ليحضر منهج أخذ الحق باليد التي تحمل الكلاشنكوف والآر بي جي أو متشبثة خلف الرشاش 14.5، أصبحت تتفرخ في غمرة فوضى انتشار السلاح والميليشيات والإيديولوجيات والأجندات السجون ومراكز الاحتجاز بأعداد كبيرة، معظمها سرية يُزج فيها معتقلون لأسباب مختلفة: من أتباع النظام السابق إلى مختطفين على الهوية القبلية أو الجهوية أو على الهوية الإيديولوجية السياسية أو مختطفين محتجزين لدى عصابات إجرامية مقابل فدية مالية أو محتجزي الهجرة المُتاجر بهم.

فكيف يمكن تصور إمكانية تفكيك هذه المعضلة الفوضوية من الانتهاكات الإنسانية خارج القانون في غياب دولة مسؤولة في شخصيتها الاعتبارية المعترف بها دولياً عن مراقبة السجون المعلنة وأوضاع السجناء.؟!