بعد سقوط أي طاغية ونظامه بواسطة ثورة شعبية أو انقلاب عسكري يُزال عادةً كل ما يُشير إليه ويُذكر به وبعهده، تُمزق صوره وتُهدم تماثيله وتُطمس خطبه وأفكاره، كما يُستهدف مسقط رأسه بالتهميش والإهمال.

مثلما حدث مع الديكتاتور العراقي صدام حسين الذي أنهت نظامه قوة الاحتلال الأمريكي، وكانت العلامة الرمزية لنهاية عهده ماثلةً في إسقاط تمثاله الضخم في ساحة الفردوس في 9 أبريل 2003، وتبعاً للنظرة العدائية لعهده من الحكام الجدد نُظر إلى مسقط رأسه ومثواه الأخير في بلدة العوجة بكراهية ونزعة انتقامية، بحسبانها كانت تحظى برعاية وخدمات مخصوصة، وبحسبان أهلها أعواناً أوفياء لابنهم الديكتاتور.

لكنها في واقع الأمر تشبه غيرها من قرى وبلدات العراق كما وصفها صحفي عراقي من عين المكان “لا شيء مميز في العوجة سوى بعض البيوت الحديثة التي توزعت بين بيوت قديمة بنيت في السبعينات من القرن الماضي وشوارع تملؤها الحفر والمطبات وأرصفة متهالكة وعوارض كونكريتية تعلوها أسلاك شائكة”.

وأثناء حرب القوات العراقية على تنظيم داعش تحولت العوجة في صيف 2015 إلى أرض حرب طاحنة، ألحقت الدمار بمنازلها ونزح أهلها خوفاً من انتقام ميليشيات الحشد الشيعية بجريرة تعاونهم مع التنظيم الإرهابي من جهة، ولكونهم عشيرة صدام وتحتضن بلدتهم قبره من جهة أخرى، فاستهدفت البناية التي تحتوي ضريحه بالتدمير التام ويقال أن جماعة من عشيرته نقلوا جثمانه قبل ذلك إلى موقع مجهول خوفاً من تعرضه للنبش والانتهاك.

في ليبيا حدث الأمر نفسه مع مسقط رأس الديكتاتور القذافي (سرت) التي كان يُنظر إليها في الرأي العام المقموع بأنها تحظى بميزات محرومة منها بقية المدن، في الواقع زرت سرت في التسعينات ولم يكن بها شيءٌ مذهلٌ يميزها عن مثيلاتها من المدن الليبية، والتطوير العمراني الذي حظيت به في بداية الألفية لا يُقارن بما حظيت به مدينة مثل مصراتة، التي جاء منها معظم كتائب الثوار الذين حاصروا سرت بينما كان القذافي متحصناً فيها مع ما تبقى من قوات حرسه الخاص.

لجأ القذافي إلى سرت قبل تحرير طرابلس بيومين على يد المتمردين المسلحين المقاومين من داخلها والقادمين من خارجها، تحصن القذافي في مسقط رأسه مع ما تبقى له من قوات في مواجهة كتائب الثوار المسنودين من طيران الناتو وقد نزح كل سكان المدينة تقريباً، وإذا كان طيران الناتو قد خاض ضرباته من الجو بمنطق عسكري بحت، فإن الثوار على الأرض كانوا يضمرون على نحو ما ضغينة محتقنة ضد المدينة، بحسبانها كانت مدينة الطاغية وعاصمة نظامه الفعلية.

كنتُ شاهد عيان عندما دخلت سرت برفقة صديق مصور تلفزيوني بعد القبض على القذافي ومقتله بيوم واحد، شاهدت عمليات واسعة من النهب، شاحناتٌ كبيرةٌ قاطرةٌ تُحمّل بكل ما هو ثمين من سيارات وأثاث وثلاجات ومولدات ضخمة، كما شاهدت أفراداً من “الثوار” منتشرين في الشوارع مسلحين بالبخاخات الملونة يكتبون على حيطان البيوت والبنايات عبارات تسجل انتصاراتهم الجهوية على مدينة الديكتاتور المدمرة، كان مشهداً يُحيل إلى ثقافة الثأر القبلي في السلب والنهب بامتياز.

وكما حدث في العوجة وغيرها من مناطق العراق السنية حيث انضم الكثير ولا سيما من عناصر الجيش والأمن في نظام صدام إلى تنظيم القاعدة ثم داعش، لا عن إيمان عقائدي وإنما كرهاً في نظام المنتصرين الطائفي الذي همشهم وأقصاهم واضطهدهم، كذلك في سرت انضم الكثير من شباب المدينة والمناطق المحيطة إلى تنظيم القاعدة الذي تحولوا به إلى تنظيم داعش، وجذبوا إلى المدينة جماعات إرهابية من داخل البلاد وخارجها تلبية لرغبتهم في الانتقام لمدينتهم، لأنهم اعتبروا ما لحقها من تدمير ونهب وسلب استهدافاً متعمداَ، لعقاب أهلها جماعياً من قبل المنتصرين الجهويين الذين عاملوا سكان المدينة على أنهم أنصار القذافي، ونظروا إلى قبيلته (القذاذفة) على أنها قبيلة منهزمة فقدت امتيازات السلطة التي كانت لها في عهد حكم شيخها “القائد”.

ومرة ثانية شنت ميليشيات مصراتة حرباً كاسحة بغرض القضاء على مقاتلي داعش، الذين أعلنوا مدينة سرت ولاية تابعة لـ”دولة الخلافة”، وهاجموا ضواحي مدينة مصراتة في عمليات خاطفة بعضها انتحارية، ومن جديد في حرب جديدة نزح أهل سرت ولحق الدمار الهائل بمنازل السكان والمباني العامة والبنى التحتية.

والآن وقد طُرد منها الدواعش عاد أهلها إليها ليعانوا من صعوبة العيش وسط الدمار في غياب خطة عاجلة لإعادة الاعمار حاملين مشاعر الغبن الذي لحق بمدينتهم وبحقوقهم كمواطنين، وإذا كانت إعادة إعمار الحجر ممكنة فإن انجراحات الذات الجماعية المغبونة تظل تفرز احتقاناتها حتى وأن اندملت في الظاهر بمرور الزمن.