في خضم الفوضى الليبية، بفعل المليشيات المتناحرة على السلطة ومراكز النفوذ والمال، تنشط الميليشيات اللصوصية والإرهابية في تجارة البشر والمخدرات والأسلحة بلا هوادة. وحيث أن الحديث هنا مخصوص بتجارة المخدرات فإن هذه التجارة في الأصل تركة موروثة عن النظام السابق المنهار نظاماً ودولة.
توجد تقارير صحفية كثيرة تسرد كيف أن نظام القذافي تعمد، منذ اشتدت عليه هجمات الجهاديين في التسعينات، عدم ملاحقة كبار تجار المخدرات أمنياً كي يتيح لهم المجال للمتاجرة بالمخدرات وترويجها دون ملاحقة ومضايقة فعّالة حتى وصل الأمر إلى خلق علاقة خفيّة بين كبار تجار المخدرات ومقربين بارزين في الدائرة الأمنية العليا للنظام تستهدف تسهيل رواج المخدرات ومعها الدعارة في الشارع الليبي.
بمقاربة أخرى كانت تلك استراتيجية مخابراتية لمقارعة الترويج الإيديولوجي الإسلامي الجهادي بالترويج لـ”ما يذهب العقل” ويفرّغ المكبوت الجنسي.
إلى ذلك احتضن النظام بشكل غير رسمي العقيدة السلفية الوهابية “السلبية” الداعية إلى عدم التدخل في السياسة واعتناق مبدأ “طاعة ولي الأمر ولو كان فاسقاً” لأجل احتواء الشباب الملتزم دينياً في مكوَّن سلفي مطيع. وكان معروفاً في الشارع الليبي أن الساعدي ابن القذافي كان يقوم بدور الراعي لشيوخ تلك العقيدة السلفية السلبية حتى أنه قلدهم في لباسهم وإطلاق لحاهم ليظهر كأحد أتباعها المخلصين.
كما كان شائعاً أن ابنا آخر للقذافي وهو (هانيبال) يقوم بحكم سيطرته على إدارة الموانئ والبواخر التجارية الليبية، بتسهيل عمليات تهريب المخدرات بكميات كبيرة.
وفي الوقت نفسه أظهر النظام حرصاً على إبراز دور الشرطة (إعلامياً) في ضبط كميات من المخدرات في أوقات متواترة والقبض على مروجين وتجار صغار لتبرئة تورطه.
وفي معرض بيان إنجازات أجهزة مكافحة المخدرات تشير الإحصائيات الرسمية إلى أن عدد قضايا المخدرات المضبوطة في الفترة من يناير 2000 إلى أبريل 2009 بلغت 19328 قضية، وبلغ عدد المتهمين 28513 متهماً. وتم في الفترة نفسها ضبط أكثر من 80 طن من مخدر الحشيش ونحو 300 كيلو جرام من مخدر الهيروين و360 كيلوجرام من مخدر الكوكايين ومليون ونصف مليون قرص من الأقراص المخدرة.
فيما سُجل في الفترة من عام 1992 إلى سنة 2008 استقبال قرابة 19 ألف حالة إيواء من الجنسين في المصحات العلاجية الثلاثة (اثنتان في طرابلس وواحدة في بنغازي) العاملة في مجال علاج وتأهيل المدمنين والتي أغلقت أثناء أحداث 17 فبراير ولا تزال.
وفي اليوم التالي على تفجر أحداث 17 فبراير أطلق النظام وبأوامر مباشرة من القذافي (بطبيعة الحال) سراح كل السجناء الجنائيين وبينهم المدانون بقضايا الاتجار بالمخدرات وترويجها. وتقول تقارير وشهادات متعددة (غوغل) أن النظام عمد إلى توزيع شتى صنوف المخدرات والخمور على جنود كتائبه في الوقت الذي اتهم فيه المتمردين على نظامه بتعاطي حبوب الهلوسة.
وهكذا بعد سقوط النظام وقد تبخر جيشه وشرطته أصبحت تجارة المخدرات شبه علنية إلى جانب تجارة الأسلحة وتجارة البشر ضمن ما يمكن وصفه بالاقتصاد الميليشياوي الخفي الذي تسيطر عليه مليشيات مختلفة التوجهات حتى أنه صار لكبار تجار المخدرات ميليشياتهم الخاصة والتي ترتبط بعلاقات وثيقة مع مافيات كبيرة في إيطاليا وإسبانيا وفرنسا.
وحسب ما جاء في تحقيق ميداني لصحيفة نيويورك الأمريكية (سبتمبر 2016) أوقفت سفينتان حربيتان إيطاليتان سفينة شحن تحمل اسم “آدم” قبالة السواحل الليبية في 12 أبريل 2013. عثر داخلها على شحنة مكونة من 15 طناً من مخدر الحشيش، وكانت أكبر من كل الشحنات التي صادرتها السلطات الإيطالية في أي وقت مضى. وقُدر ثمنها بمبلغ 150 مليون يورو، وقبلها وبعدها ضبطت السلطات الإيطالية عديد الشحنات تساوي مئات الملايين.
وفي الجانب الليبي ضبطت سلطات مكافحة المخدرات كميات هائلة من الشحنات المخدرة. منها ضبط 170 طن من مخدر الحشيش خلال الفترة بين سنة 2014 و2015. وفي 2017 تمكنت سلطات الجمارك بميناء طبرق من ضبط شحنة مهربة تصل لأكثر من 100 مليون قرص. وإليها تمكنت سلطة الجمارك بميناء مصراتة في فبراير الماضي من ضبط حاويتين محملتين بـ 140 مليون حبة “ترامادول” و200 مليون حبة “فياغرا” تصل قيمتهما إلى 300 مليون دولار حسب تقدير قسم مكافحة تهريب المخدرات.
وكل ذلك وغيره من المضبوطات لا يمثل في أفضل الأحوال، إلا 5 % من جملة ما يتم ضبطه، حسب العقيد أبو بكر عطية مدير بالإدارة العامة لمكافحة المخدرات.
والشاهد أن أوضاع الانقسام السياسي والانفلات الأمني والتدهور الاقتصادي جعلت من ليبيا مركزاً مثالياً لتجارة مختلف أنواع المخدرات استقبالا وعبوراً. وبطبيعة الحال كانت كميات كبيرة من المخدرات تصل بسهولة ورخص إلى متعاطيها من الشباب الليبيين الذين انخرط الكثير منهم بين السادسة عشر والخامسة والعشرين كأعضاء مسلحين في ميليشيات تتبع أمراء ميليشيات إيديولوجية أو لصوصية يتلقون منها أجور مالية علاوة على إغراءات المغامرة والشعور بالقوة والسيطرة.
وحيثما استمرت هذه الأوضاع سوف تستمر تجارة المخدرات وعصاباتها ومُتعاطوها في التوسع والانتشار لتراكم تركة ثقيلة تواجهها الدولة الليبية التي لم تسترجع نفسها بعد.