من أين دخلت السلفية المدخلية إلى ليبيا؟!

المدخلية نسبة إلى الشيخ السعودي ربيع المدخلي الذي اشتهر أثناء حرب “تحرير الكويت” العام 1991 بآرائه التي تفتي بجواز “الاستعانة بالكفار” بحجة أنه يحقق مصلحة لدرء “العدوان العراقي”، على الضد من التيارات الإسلامية الإخوانية والجهادية التي حرّمت الاستعانة بقوات غير إسلامية لتحرير الكويت.

من أين دخلت السلفية المدخلية إلى ليبيا؟!

المدخلية نسبة إلى الشيخ السعودي ربيع المدخلي الذي اشتهر أثناء حرب “تحرير الكويت” العام 1991 بآرائه التي تفتي بجواز “الاستعانة بالكفار” بحجة أنه يحقق مصلحة لدرء “العدوان العراقي”، على الضد من التيارات الإسلامية الإخوانية والجهادية التي حرّمت الاستعانة بقوات غير إسلامية لتحرير الكويت.

كان المدخلي عضواً في جماعة الإخوان المسلمين لثلاثة عشرة سنة قبل أن يخرج منها عليها، ويظهر ممثلاً لما يسميه “السلفية الصافية” التي انتشرت أدبياتها الفقهية بقوة خارج السعودية، خصوصاً في مصر وشمال أفريقيا، محمولة على شبهة أنها من صنع المخابرات السعودية لمواجهة السلفية الجهادية التي سبق وتبنتها المخابرات السعودية والأمريكية لمحاربة الغزو السوفيتي لأفغانستان، لكنها ارتدت “جهاداً” باسم “القاعدة” على النظام السعودي بحسبانه نظاماً عميلاً موالياً لـ”النصارى واليهود”.

ومما يؤكد شبهة “تصنيع” السلفية المدخلية مخابراتياً (عند خصومها من تيارات إسلامية ومدنية) أن مقاصد حركتها مبنية على خدمة مصالح نظام الحكم القائم من خلال مبادئها القائمة على عدم جواز الخروج على الحاكم المسلم وإن كان فاسقاً، وعدم جواز الاعتراض عليه أو على مؤسسات نظام حكمه مطلقاً ولا حتى إبداء النصيحة له في العلن.

وتعتبر المدخلية نفسها الممثل الحقيقي للمنهج السلفي وما عداها من جماعات إسلامية “مبتدعة في الدين”. وتصنف العلمانيين والليبراليين والمنادين بالديمقراطية ملاحدة، حيث كل من ارتكب فعلاً من أفعال الكفر، حسب تأويلهم، هو كافر دون إقامة حجة أو انتفاء موانع التكفير وتحقق شروطه. وتقر بأن تفوق اليهود والنصارى على المسلمين هو أمر قدري لا حيلة لهم فيه وبالتالي لا يجوز جهادهم بحال من الأحوال إلا إن أذن “ولي الأمر”.

لذلك وجدت الأنظمة الاستبدادية كما في ليبيا زمن القذافي في المدخلية لقية فقهية ثمينة لإضفاء الشرعية الدينية على مشروعية النظام واستخدامها في مناهضة الجماعات الإسلامية المعتدلة والمتطرفة. فتكاثر أتباعها بشكل لافت في الشارع الليبي بعدما أفسح النظام لنشاطها في المجال العام من خلال الجمعيات الخيرية ومنابر المساجد وخلوات تحفيظ القرآن وبرامج التلفزيون والإذاعة، مع مراقبة أمنية خفيَة من داخل حلقات شيوخها الذين كان بعضهم رجال مخابرات مزروعين، إلى درجة أن نجل القذافي المدعو الساعدي صار أبرز أتباعها.

وجاء ذلك في سياق توزيع الطاغية لأدوار اللعبة التسلطية بين أبنائه. حيث وجدنا سيف الإسلام نجله الأكبر ووريث سلطانه يعقد صفقة عام 2009 مع جماعة الإخوان المسلمين والجماعة الليبية الإسلامية المقاتلة (قاعدة)، تم بموجبها تخلي الجماعتين عن معارضة النظام ونبذ العمل بالسياسة وتقديم اعتذار مكتوب ومعلن للقذافي بحسبانه ولي أمر شرعي أخطؤوا عندما خرجوا عليه، مقابل إطلاق سراح سجناء الجماعتين.

وبالعودة إلى دور الساعدي القذافي الشائع عنه، في الشارع الليبي، استهتاره ومجونه، نجده يظهر وقد أطلق لحيته وحلق شاربه وقصّر إزاره، مدعيّاً أنه طالب علم سلفي على الطريقة المدخلية. وكان كثير التلاقي مع شيوخها في طرابلس من مدّعي للعلم الشرعي ويحيط نفسه بأتباع خاصين ينادونه بالشيخ.

عقد الساعدي صلات قوية مع شيوخ سعوديين، تحصل من بعضهم بعد انلاع “ثورة 17 فبراير” على فتوى تحرم الخروج على والده، واعتبار ثورة الليبيين على القذافي “فتنة القاعد فيها خير من القائم”. وقامت شركتا ليبيانا والمدار للهاتف المحمول (يُديرهما محمد نجل القذافي) ببث رسائل نصية تحث الناس على طاعة ولي الأمر (القذافي) والتزام البيوت.

بعد التحرير انشغل السلفيون الوهابيون، بدعوى عدم وجود ولي أمر، في تهديم كل ما تطاله بلدوزراتهم ومتفجراتهم من أضرحة ومقامات لأولياء وتماثيل أثرية ونصب ومنحوتات فنية. وكنتُ شاهداً على ما فعلوه بمنحوتة “الحورية والغزالة” المقامة منذ ثلاثينات القرن الفائت وسط طرابلس، وتمثل أنثى جالسة عارية تمسك جرة بيد وبالأخرى تلاطف عنق غزالة مشرئب في غمرة مياه نافورة.

جاؤوا إليها وقد نامت المدينة، ولفوا كامل المنحوتة بأكياس بلاستيك زرقاء اللون تستعمل للقمامة وربطوا حبلاً حولها. ولكن في الصباح مزق بعض العابرين الحجاب البلاستيكي. وبعد أيام وفي ليل بهيم جاؤوها بقذيفة أر بي جي بغية تدميرها بالكامل. تركوا فجوة في بطنها البرونزية بحجم القذيفة التي خرجت من خصرها دون أن تنسفها أو تصيب الغزالة بجوارها. فعادوا بعد أيام في الليل أيضاً واقتلعوا المنحوتة من الجذور فأصبحت في خبر الاختفاء القسري.

ثم فجأة، بعد فترة، توقفت الظاهرة كأنهم تلقوا فتوى من شيوخهم السعوديين بتجميد جهادهم ضد الحجر. لا سيما بعدما شكلوا كتائب مسلحة تتقاضى رواتبها من الدولة، ولحقهم الانقسام السياسي. فانضم سلفيو المنطقة الغربية إلى ميليشيات “فجر ليبيا” المسيطرة على طرابلس وسلفيو برقة إلى “عملية الكرامة” في مقاتلة ميليشيات الإخوان والقاعدة وداعش، في تناقض صارخ مع أدبياتها الفقهية بعدم الخوض في السياسة ورفض التحزب والانتخابات.

فماذا سيكون مصير السلفية المدخلية، في برقة تحديداً، بعد انتهاء دورها العسكري؟! هل ستسلم سلاحها وتعود إلى ممارسة معتقداتها كجماعة دعوية بعيداً عن السياسة وشؤونها؟! أم أنها، وقد تسلحت وتنظمت في كتائب يقودها أمراء حرب، سوف تستخرج أو يُستخرج لها فتاوى ترسم لها دوراً سياسياً بحكم قوتها الميليشاوية المسلحة الأمر الذي قد يفتح الباب لصراع مسلح محتمل مع قوات حفتر؟!