1

بعد ثمانين عاما ونيف، تمكنت جماعة الإخوان المسلمين من حكم مصر. فازت برئاسة الدولة وأغلبية مقاعد البرلمان من خلال انتخابات ديمقراطية حرة ونزيهة لأول مرة في تاريخ مصر. لكن كأن في وصولها إلى الحكم كانت نهايتها.

1

بعد ثمانين عاما ونيف، تمكنت جماعة الإخوان المسلمين من حكم مصر. فازت برئاسة الدولة وأغلبية مقاعد البرلمان من خلال انتخابات ديمقراطية حرة ونزيهة لأول مرة في تاريخ مصر. لكن كأن في وصولها إلى الحكم كانت نهايتها.

إذ جنحت على الفور إلى احتكار مقاليد السلطة لصالح إنفاذ مشروعها الأيديولوجي لأخونة الدولة، بحيث ظهر الرئيس المنتخب محمد مرسي مجرد واجهة رئاسية طيعة بيد المرشد الأيديولوجي العام محمد بديع. ونتيجة ذلك أن جماعة الإخوان أمضت عامها الأول والأخير في الحكم، تُغالب أزمات سياسية واقتصادية متفاقمة.

حمّلت القوى المعارضة من ليبراليين وعلمانيين، السلطة الإخوانية مسؤولية تفاقم الأزمات المتوالية، بسبب انفرادها بالسلطة ورفضها الشراكة السياسية التوافقية الملحة في وضع انتقالي غير مستقر، وإمعانها في مصادمة القضاء والإعلام، وعجزها عن تقديم حلول عملية استجابة لشعار ثورة 25 يناير: “عيش.. حرية.. عدالة اجتماعية”.

وجاءت الضربة القاضية للجماعة من الشعب عندما خرج ناقماً ساخطاً في تظاهرات مليونية تطالب بإسقاط حكمها وإجراء انتخابات رئاسية مبكرة.

اعتبر الإخوان خروج ملايين الناس عليهم في 30 يونيو 2013 ثورة مضادة من تدبير قوى “الدولة العميقة” وعلى رأسها المجلس العسكري الأعلى بقيادة الفريق عبد الفتاح السيسي الذي عدّ التظاهرات تفويضاً شعبياً لانقلاب 3 يوليو الذي لم يستهدف إسقاط حكم الإخوان فحسب وإنما اجتثاث تنظيمهم من الحياة السياسية بحسبانه تنظيماً إرهابياً.

والشاهد أن نكبة الإخوان الأخيرة هذه مغايرة لنكبتيها السابقتين في عهد الملك فاروق وفي عهد البكباشي عبد الناصر. في المرة الثالثة هذه كان الإخوان في السلطة والشعب هو من ثار عليهم ليحكم العسكر السيطرة على الدولة في شكل نظام سياسي يتشبه بالديمقراطية. والسؤال الذي يطرح نفسه: هل ستكون الثالثة ثابتة؟! بمعنى نهاية الإخوان نهائياً. دون عودة من جديد كما كانوا يفعلون بعد كل نكبة تصيبهم؟! ذلك يتوقف على ما إذا كان رفض الغالبية الساحقة من المصريين للإخوان يعبر عن رفض اجتماعي راسخ للأيديولوجية الإخوانية، وليس مجرد تأييد لإسقاط رئيس إخواني فشل في إدارة حكم البلاد.

2

أما في تونس فاتحة “الربيع العربي” فيبدو أن حركة النهضة الإسلامية، التي خرجت من العباءة الإخوانية، تنبهت إلى مآل نكبة إخوان مصر. فقامت بخطوات تراجعية تكتيكية بعدما واجهت احتجاجات شعبية قوية، قادتها أحزاب المعارضة العلمانية (ليبرالية ويسارية) بمعية قوى المجتمع المدني، ترفض توجهات النهضة لأسلمة الدولة.

اتسعت قاعدة الاحتجاجات عقب اغتيال النائب محمد البراهمي في يوليو 2013 حيث اتهم ثلث أعضاء الجمعية التأسيسية حكومة حركة النهضة بالتستر على جريمة الاغتيال التي أاتهم بها إسلاميون. وكانت قد تصاعدت بشكل عارم بعد اغتيال شكري بلعيد في 6 شباط/ فبراير 2013 من السنة نفسِها. فتفجرت أزمة سياسية عويصة.

ولكن لأن قيادات حركة النهضة وعلى رأسهم الشيخ الغنوشي وإليهم كوادر بارزة عاشوا في الغرب في سنوات المنفى الطويل منفتحين على الثقافة الفرنسية والإنكليزية، ولأن في تونس جامع الزيتونة وجامعته حاضنة الفكر الإسلامي العقلاني، ولأن المجتمع التونسي الذي تشكل من منظور رؤية بورقيبة العلمانية ترسخ على مدى عقود مجتمعاً مدنياً (حتى لا نقول علمانياً) تتمتع فيه النساء بحقوق عصرية تقدمية ترفض الفقه الذكوري، تعاملت “حركة النهضة” مبكراً بعقلانية سياسية مع الأزمة وهى تلاحظ تراجع شعبيتها باضطراد مقابل صعود شعبية حركة “نداء تونس” على نحو كاسح. فأدركت أن عليها أن تراجع مشروعها الشمولي لتغيير المجتمع لتفرض التغيير على نفسها كي يقبلها المجتمع.

لذلك وجدناها تمتثل لمبادرة الرباعي (الاتحاد العام التونسي للشغل، الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية، نقابة المحامين التونسيين، رابطة حقوق الإنسان). المبادرة التي أفضت في النهاية إلى انتخابات تشريعية ورئاسية فاز بها تكتل “نداء تونس” العلماني.

ثم عمدت حركة النهضة الإسلامية إلى عقد مؤتمرها العاشر (22 ـ 23 مايو 2016) تحت شعار الفصل بين السياسي والديني، أو بتعبير كلام شيخها التاريخي راشد الغنوشي “الخروج من الإسلام السياسي” في محاكاة لتجربة حزب العدالة والتنمية التركي. وبالمقارنة السياسية فإن مقاربة حركة النهضة تبدو قاصرة جوهرياً عن تجربة الحزب التركي، الذي يحكم وفوق رأسه صورة أتاتورك ووفق تعاليمه العلمانية المتشددة التي تفصل الدين عن الدولة فصلا تاماَ وتحرم ارتداء الحجاب في مؤسسات الدولة بينما تبيحه العلمانية الغربية باستثناء فرنسا.

وعكس حزب العدالة والتنمية نجد على رأس حركة النهضة شيخ دين (الغنوشي 74 عاماً) يمارس دور مرشدها الروحي ورئيسها المؤبد منذ العام 1981. ومع ذلك يصرح في مقابلة مع صحيفة لوموند الفرنسية، قبل أيام من انعقاد مؤتمر الحركة، أن النهضة تتجه للخروج “من الإسلام السياسي لتدخل في الديمقراطية المسلمة”.

تسمية “الديمقراطية المسلمة” مستقاة من أدبيات حزب العدالة والتنمية التركي. الذي لم يفز بالسلطة إلا بعدما خرج جذرياً من الإسلام السياسي لما قام جناح المجددين بزعامة أردوغان ـ غول بالانشقاق على جناح القيادة الإخوانية التقليدية لحزب “الفضيلة” المعروفين بأصحاب اللُحي. ليدخل الحزب الجديد (العدالة والتنمية) المنافسة الانتخابية العام 2002. ولم يجد عبد الله غول، غضاضة في القول: “لا تسمونا إسلاميين. نحن حزب أوروبي محافظ حديث. لا نعترض إذا وُصِفْنا بأننا ديمقراطيون مسلمون، على غرار الديمقراطيين المسيحيين في الأقطار الأوروبية الأخرى..” وهو يعتبر “الخلط بين الدين والسياسة يضيرهما معا. فالمبدأ الديني محصن بطبيعته من أي تغيير، أما السياسة فتتغير باستمرار استجابة للواقع.”

فهل يمكن اعتبار ما خرج به مؤتمر حركة النهضة العاشر خروجا فعليا من الإسلام السياسي في وجود أصحاب اللحى والمواعظ الدينية على سدة القيادة؟!، أم أنها كما يرى خصومها مجرد مراوغة سياسية انتهازية تتبدل بها شكليا ولا تتغير جوهرياً في إطار لعبة توزيع الأدوار.

3  

في ليبيا الواقعة بين تونس ومصر، هيمن الإخوان وحلفاؤهم من تيار الإسلام السياسي على “المؤتمر الوطني العام” الناجم عن انتخابات يوليو 2012. وكان تحت سيطرتهم، عكس مصر وتونس، ميليشيات مسلحة منتشرة في أنحاء البلاد غداة سقوط نظام القذافي ودولته المتهلهلة.

ونتيجة لممارساتهم السياسية السيئة باسم الدين وممارسات ميليشياتهم الفاشية في التعدي على أمن الناس وأملاك الدولة، وجدوا أنفسهم يخسرون غالبية أصوات الناخبين في انتخابات مجلس النواب (يوليو 2014) لصالح القوى المدنية ليصبحوا أقلية نيابية في حدود 25 نائبا من نحو 200 نائب.

لذلك قام تحالف عسكري من المليشيات الإسلامية بالسيطرة على عاصمة طرابلس لإسقاط نتائج الانتخابات. فانقسمت البلاد بين مؤتمر وطني عام وحكومة في الغرب (إقليم طرابلس) ومجلس نواب وحكومة في الشرق (إقليم برقة) بينما الجنوب (إقليم فزان) بين هنا وهناك.

في واقع الحال لم يكن نواب الأغلبية في مجلس النواب يمثلون توجهات ليبرالية أو علمانية مؤدلجة. كانوا أصحاب توجه مدني رافض لحكم الإخوان وحلفائهم، تعبيراً عن رفض غالبية المجتمع الليبي لهم. ليس لأنه مجتمع ذو ثقافة ليبرالية أو علمانية، إنما، للمفارقة، لأنه مجتمع متدين محافظ يُشاع عنه وصفه ببلد المليون حافظ للقرآن. إناثه، صغاراً وكبارا، محجبات على بكرة أبائهم وأمهاتهم. معظم ذكوره محجبون باللحي الكثة. يطبقون الشرع في تفاصيل حياتهم من تلقائهم. لا قوانين علمانية ولا حانات خمر ولا ملاهي ليلية ولا شواطئ سواح عراة.  

لذلك لم يغريهم مشروع الإسلام السياسي لجماعة الإخوان والجماعة الليبية الإسلامية المقاتلة بشيء حقيقي لا سيما وقد ظهر اعورار مشروعهم بعدما هيمنوا بروح فاشية على السلطة وتبين أن اللحية لا تصنع التقوى واللطعة (البقعة الداكنة على الجبين من أثر السجود) لا تبرر الاستحواذ على السلطة.

أي تبين أن الإسلاميين السياسيين ليسوا أولياء صالحين لمجرد ادعائهم الوصاية على تفاسير الدين. فهم مثلهم مثل غيرهم من سياسيين ليسوا بإسلاميين. بينهم الحذاق والسراق والغشاشون. والأخطر من ذلك أنهم متهمون بمئات عمليات الاغتيال لعناصر الجيش النظامي والشرطة ونشطاء المجتمع المدني في مدينة بنغازي على الخصوص.

ومن خلال وجودي في المنطقة الشرقية لمست كراهية شديدة واسعة النطاق عند الناس ضد الإخوان والمقاتلة الموصوفين بأنهم دواعش بلا تفريق، بينما نجدهم يسكتون عن جماعة السلفية الوهابية (المدخلية) لأن أتباعها لا يخرجون على طاعة ولي الأمر الذي يحدده لهم شيوخهم السعوديون ثم لأنهم يحاربون في صفوف “عملية الكرامة” التي يقودها الجنرال حفتر بحسبانه تابعاً لسلطة ولي الأمر (مجلس النواب). وهم في ذلك مثل أشباههم المصريين (حزب النور) الذي تحالف بتوجيه سعودي مع الجنرال السيسي ضد الإخوان.

والآن، بعد مرور عامين ونيف على “عملية الكرامة” لا وجود سياسياً للإسلاميين في برقة وفي معظم فزان. ويوشك القضاء على ميليشياتهم في بنغازي ودرنة. لكن قوتهم المسلحة كبيرة في المنطقة الغربية وعمادها ميليشيات مصراتة، ويسيطرون على طرابلس العاصمة وكأنها إمارتهم الإسلامية المنشودة رغم أن غالبية ساكنة طرابلس الكبرى الذين يمثلون ثلث سكان ليبيا يرفضون حكم الإسلام السياسي، لكنهم لا يجرؤون على التعبير عن رفضهم لا سيما في تظاهرات شعبية خشية الاعتقال أو الاختطاف القسري أو حتى الاغتيال الذي أصبح ظاهرة مألوفة.

أما المجلس الرئاسي بحكومته المقترحة فهو مستقر في قاعدة بحرية رهين حماية ميليشيات الإخوان والمقاتلة. وحيث يلعب الشيخ الصادق الغرياني (مفتي الديار الليبية) دور الولي الفقيه بامتياز. لا يكف عن إصدار الفتاوى المتطرفة في القضايا السياسية والعسكرية لصالح الميليشيات الإسلامية.

ومن أبرز ما أفتى به مؤخراً تحريض واضح على الحرب الأهلية إذ دعا مدناً بعينها في غرب ليبيا إلى إرسال أبنائها للقتال ضد قوات “عملية الكرامة” من أجل تحرير بنغازي. قائلاً أن:” جبهة بنغازي يتقرر عليها مصير ليبيا.” الأمر الذي اعتبره أهل برقة إعلان حرب.

وعلى هذا الحال ليس من حل سياسي توافقي ممكن في الأفق المنظور خصوصاً إذا استمر المجلس الرئاسي نزيل العاصمة وعجز عن إخراج الميليشيات منها. لتستمر حرب السجال حتى يُسلم أحد الطرفين بهزيمة مشروعه.