بالتزامن مع الأزمة المالية التي تمر بها ليبيا، والتي أدت لهبوط الدينار الليبي إلى أدنى مستوياته مع نقص كبير في السيولة النقدية بالمصارف، وانجراف المصرف المركزي إلى هاوية الاستقطاب بين الأطراف السياسية المتنازعة، “مراسلون” يلتقي الخبير المالي الدكتور سليمان الشحومي مؤسس ورئيس سوق المال الليبي السابق الذي كان معه الحوار التالي:

س- أثير جدل كبير حول إشكالية طبعة العملة الأخيرة التي قام بها مركزي البيضاء واختلاف شكلها عن العملة المتداولة في السوق واختلاف توقيع المحافظ، ما تعليقك؟

ج- هذه الطبعة صحيحة وسليمة ولا غبار عليها، أموال ليبية صدرت من جهة شرعية، لو نظرنا إلى مجلس إدارة المصرف المركزي لوجدناه مكوناً من 7 أشخاص 4 منهم موجودين في البيضاء هم من اتخذ القرار بالطبع فالأغلبية عندهم، هي رسمية وشرعية ولا يجوز الحديث في مسألة تزوير هذا كلام غير مقبول ومنافٍ للصّحة

في 2011 صدرت عملة من المحافظ المكلف في المركزي المؤقّت ببنغازي وعليها توقيعه المخالف لتوقيع المحافظ السابق في ليبيا وهي متداولة حتى الآن ولم يعترض عليها أحد، وطبعت العملة في مطابع فرنسية وليست المطابع الإنجليزية المعروفة، فمسألة طباعة العملة فنّية ويتم إصدارها بناء على مجموعة من القرارات والإجراءات المالية والاقتصادية وليست اعتباطاً.

لم يحدث ذلك في التاريخ حسب معلوماتي دولة واحدة وموحدة مثل ليبيا هي من أتت بهذه البدعة المالية، ولكن العملة ما دامت الجهة التي أصدرتها تقبلها وتقبل الدفع بها فهي رسمية ولو كانت على أيّ ورق، البنك يمكنه أن يصدر عملة كيفما يشاء ويقبلها في البنوك الخاضعة لسيطرته الإدارية والمالية، ويكتب عليها صالحة للدفع والسداد، ولا علاقة لذلك بشكل التوقيع وأشكال الرسومات.

 في بداية 2011 كان عندنا ديناران من قبل وتمّ إصدار دينار جديد فأصبحت ثلاثة وكلها كانت متداولة ولا علاقة لها بالنظام السياسي لأنها من سلطة نقدية، ولهذا العالم يتّجه الآن لفصل استقلالية سلطة إصدار النقد، البنك المركزي الليبي يجمع بين سلطتي إصدار النقد والرقابة على البنوك ولضمان استقلالية النظام المالي يجب الفصل بين السلطتين.

س- يتهم مراقبون إدارات مركزي طرابلس والبيضاء بأنهم سبب رئيس في الأزمة، ما تعليقك؟

ج- ليبيا تمر بأزمة اقتصادية خلفت أزمة مالية لكن الانقسام زاد الطين المبلول بلّة، أصبحت المعضلة أكبر، فعندنا مؤسستان تنتهجان سياسات متضادة أو مختلفة، وبالتأكيد العامل السياسي أضاف المكابرة والعناد وكان له تأثير على الانقسام في المؤسسات الليبية سواء البنك المركزي أو المؤسسة الوطنية للنفط أو المؤسسة الليبية للاستثمار.

رغم محاولات المجلس الرئاسي التقريب بينهم لكن كل طرف تشبّث بشرعيته وشروط العمل لديه وقدّم الحجج دون أن يقدّم أيّ منهما حلاً للأزمة حتى الآن، وأنا أقول: إن الحل يكون ابتداء بتوحيد حقيقي للمؤسسة.

س- أيّ سياستي المركزيّين تراها أفضل؟

إذا كنّا واقعيين مركزي البيضاء لم يقدّم أي شيء باستثناء ما قام به الآن من طبع العملة لفكّ الوضع المتأزّم للناس، لأنه كان فاقد السيطرة على الاحتياطيات في الخارج وفاقد السيطرة على أكثر من ثلثي العمل المصرفي في ليبيا، هو فقط يسيطر على المصارف في المنطقة الشرقية دون الغربية والجنوبية، فكانت كل إجراءاته حبر على ورق باستثناء طباعة العملة التي زادت في تعقيد الوضع في المؤسسة المصرفية.

أما مركزي طرابلس فهو القائم فعليّا لكن تنقصه الشرعية باعتبار أن مركزي البيضاء شرعيته من مجلس النواب، وهذا الجسم غير الشرعي هو الذي لديه الفاعلية على الأرض وقادر على أن يفرض سيطرته من خلال تحكمه في الاحتياطيات الدولية والعملات الموجودة خارج ليبيا.

مصرف الوحدة مثلا له مدير عام واحد وجزء من المصرف يلتزم بتعاليم مركزي البيضاء وجزء منه يلتزم بتعاليم طرابلس، هو يتعامل مع جهتين مما يسبب له إرباكاً كبيراً، وكذلك تعطّلت عمليات أخرى كالعملية الرقابية والتسوية والمقاصة بين الشرق والغرب تعطّلت في ليبيا بالكامل، أصبح كل التركيز الآن على السيولة وإرجاع الأموال إلى المصارف وفتح الاعتمادات ولكن المنظومة المصرفية فيها مشكلة خطيرة الآن ممكن تهدّد سلامتها في المستقبل.

المواطن الليبي يبحث عمن يقدّم له الدينار ليسدّ رمقه في هذه الظروف الصعبة، بالتالي المواطن قد لا يدرك الأبعاد الاقتصادية والمالية لهذا الموضوع، فمثلاً عملية طباعة العملة بعد سحب الأرصدة من البنوك ستنتهي، كمية 4 مليار دينار التي طبعها مركزي البيضاء ستخرج من البنوك عندما يسحبها الناس وسنعود لنقطة الصفر من جديد.

استمرار الطباعة يسبب انهيار للعملة الليبية وهذا يعرفه كل من في المركزي وسيقود للتضخم الجامح، الآن تم اعتماد العملة الجديدة المطبوعة في روسيا ووافق مركزي طرابلس على توزيعها في ليبيا بالكامل، هذا أمر جيد ولكن يبقى الأهم هو توحيد المؤسسة المصرفية.

س- ما المقصود بمصطلح التضخّم النقدي الناتج عن كثرة طباعة العملة؟

الناس تعتقد أن التضخم هو زيادة رقم العملة المطبوعة، لكنه ارتفاع في المستوى العام للأسعار بمعنى أن عندك كمية كبيرة من النقود وتوجد سلعة محدودة يصبح الطلب عليها كبير وترتفع الأسعار بشكل جنوني، لديك نقود كثيرة لكن تزداد الأسعار لأن السلعة محدودة وتأتي بتكلفة عالية من الخارج بالدولار فالاقتصاد عندك معطل ولا توجد إنتاجية، زيادة العملة المعروضة سبب رئيس في التضخم النقدي.

من واجبات المركزي الحفاظ على حدود مقبولة من التضخم من خلال استخدام أداوت نقدية إما بزيادة عدد النقود أو تقليلها أو سحبها عبر التأثير في معدل الفائدة وشهادات الاستثمار وغيرها، ووجهة نظري حتى العملة التي دخلت يجب أن يتم استخدامها لتحل محل عملة قديمة لكن لا يمكن عمل السحب الآن للعملة القديمة، فهي علاج مؤقت مسكّن في شهر رمضان لكن يجب أن تصاحبه إجراءات أخرى أعتقد أن مركزي البيضاء في ظل الظروف الحالية غير قادر على تنفيذها.

مركزي طرابلس قام بقبول العملة الآن وهو سيطبع 8 مليار دينار، يمكن بعد ذلك سحب هذه العملة وتصبح عملة احتياطية لديه أو يتم إتلافها وبهذا يتم علاج المسألة بشيء من الحكمة وليس بالمدّ والجزر الحاصل بينهما.

س- من القادر على تطبيق حل فعلي للأزمة المالية اليوم؟

ج- المركزيّان في البيضاء وطرابلس استجابا للمجلس الرئاسي وعقدا اجتماعات معه في طرابلس وتونس، لذا يعتبر هو الوحيد القادر على إحداث تغيير في الوضع الشائك بعد التنافر الكبير، والحل عبر توحيد المؤسسة المصرفية في ليبيا بإعادة تشكيل مجلس إدارة مصرف ليبيا المركزي وتوحيد الإدارات والحفاظ عليها بشكل موحّد ثم يبدأ التداول بعد النقطة من أول السطر، يتبع ذلك جملة من القرارات والإجراءات التي تسير في حلحلة الأزمة بالطرق العلمية على المدى البعيد وليست حلول تلفيقية مؤقّتة.

المجلس الرئاسي بعد نجاحاته الدولية وقرارات مجلس الأمن والأمم المتحدة أعتقد أنه قادر على تشكيل مجلس إدارة جديد ويمكنه فرضه حتى على المجتمع الدولي وعلى العمل الداخلي المحلّي، وسيصبح هو الوحيد المتحكم في الاحتياطات الليبية في الخارج، وبالتالي يمكن معالجة الأزمة بهذا الشكل في وجود جرأة ومصداقية، لكن الخوف أن يقع الرئاسي تحت ضغوط سياسية وتجاذبات بين أطراف لا يهمها مصلحة الاقتصاد الوطني بل تهمّها مصالحها السياسية التي قد تضرّ بمصالح الوطن والمواطن.

س- ماذا بعد توحيد المؤسسات؟

ج- بعد التوحيد تصبح السياسات محددة وواضحة، الآن المركزي يستعمل سياسات متضاربة ففي طرابلس يستخدم سياسة تسهيل فتح الاعتمادات المستندية لغرض إرجاع السيولة إلى البنوك التجارية الليبية، وفي البيضاء استخدم وسيلة طباعة العملة وطرح سندات الخزينة لتمويل مصروفات الحكومة، بالتالي هنا سياساتهم متضاربة ليس لديهم رؤية واحدة وكل منهم يعمل بما يستطيع حسب المتاح أمامه.

الحلّ السياسي ثمّ توحيد المؤسسات وإرجاع تصدير النفط طبقا لقنواته الرسمية وتوحيد المؤسسات الاقتصادية، نحتاج بناء منظومة اقتصادية جديدة تشترك فيها المالية مع الاقتصاد والبنك المركزي والصناعة ورجال الأعمال لوضع رؤية جديدة تشكل ماهيّة الاقتصاد الليبي، ويحدد فيها مساهمة القطاع النفطي وتجارة العبور والقطاع الخاص والصيد البحري والسياحة في ليبيا، يجب تحديد مستهدفات لكل قطاع من القطاعات الاقتصادية لمساهمته في الناتج الإجمالي وإعداد الخطط والبرامج للوصول إلى هذه المستهدفات ليتم تحقيقها وجلب الاستثمارات المحلية أو الخارجية.

هذا يحتاج إلى برنامج عمل برؤية وطنية لتعديل شكل ومضمون الاقتصاد الليبي، وبعد ذلك تتحسّن الأمور في وقت طويل، على الأقل 3 سنوات حتى يرجع تصدير النفط، فالاحتياطات في البنك المركزي بدأت تنفذ، وصلنا لأقل من 50 مليار دولار في حين في 2010 وصلت الاحتياطيات إلى 110 مليار، وللأسف نحن نسير من سيء إلى أسوأ يمكن أن نفقد ما تبقى من أموال في سنة؛ لذا نحتاج لوقفة جادة لتحقيق هدف حل الأزمة.

بعد 2017 سنخسر كل ما تبقّى من أموال، لكن الدولة لا تعلن إفلاسها توجد طرق أخرى وآليات معينة كالاقتراض الدولي وتصفية الأصول الذهبية وإصدار سندات في حال أصبحت العملة بدون غطاء، ففكرة ما تبقى من 50 مليار دولار هذه تمثل غطاء للعملة الليبية لو فقدناه ستنهار قيمة العملة ويصبح الدولار يساوي 20 دينار أو أكثر.

س- الأموال المجمّدة هل لها دور في حلحلة الأزمة؟

ج- في ظل انعدام منظومة واحدة وتشابك في العمل بين حكومات لا يمكن جلب هذه الأموال واستثمارها في الداخل، المنظومة والبيئة غير جاهزة في ليبيا لأي عمل على أرض سليمة، والخوف إذا تمّ التحكم في هذه الأموال أن تهدر كما أهدرت 200 مليار في السنوات الماضية.

س- بعض مدراء المصارف الكبيرة اقترح بيع أصول الذهب.. ما رأيك؟

ج- الذهب كله في ليبيا لو يتمّ بيعه لا يكفي مرتبات شهرين أو ثلاثة، لو بعنا الذهب ثاني يوم سيخرج على الطائرة خارج ليبيا لأنه لا يوجد اقتصادي حقيقي يشتغل في ليبيا، يمكن للذهب استخدامه داخلياً، إذا تم بيعه فنحن تستبدل الذهب ببعض الأوراق وسترجع المشكلة ولن يكفي لأكثر من ثلاثة أشهر.

س- هل استحداث البطاقات الإلكترونية في السحب تخفّف من أزمة السيولة النقدية؟

ج- نعم، البطاقات الإلكترونية مهمة كأداة لتطوير أنظمة الدفع التقليدية والحفاظ على النقد بالبنوك عبر توجيه المواطنيين إلى اعتماد بديل التقنية، لكنه يحتاج إلى توفر البنية التحتية الإلكترونية للربط عبر كوابل الفايبر أوبتك وأنظمة حماية وغيرها، وهي متوفرة بقلّة في بعض أجزاء من مدن ليبيا ناهيك عن أن كثيراً من المدن لا يوجد فيها بنية تحتية إلكترونية، بالإضافة إلى الصعوبات التي يعيشها قطاع الاتصالات، لذلك فمن غير الممكن أن يكون هذا البديل جاهزاً للعمل الآن بالشكل المطلوب في ليبيا، وبالتالي مساهمته في حل مشكلة السيولة الآن غير واردة وغير مجدية.