ذكرنا في مقال سابق كيف أن ليبيا كانت أول مستعمرة، بعد الحرب العالمية الثانية، تنال استقلالها بقرار من هيئة الأمم المتحدة. وأول بلاد يُعين لها مندوب دولي خاص، مهمته الإشراف على تنفيذ قرار الاستقلال من خلال دعم ومساعدة أهل البلاد على استحقاق تقرير مصيرهم في إنشاء دولة مستقلة ذات سيادة بنظام حكم دستوري ديمقراطي.

ذكرنا في مقال سابق كيف أن ليبيا كانت أول مستعمرة، بعد الحرب العالمية الثانية، تنال استقلالها بقرار من هيئة الأمم المتحدة. وأول بلاد يُعين لها مندوب دولي خاص، مهمته الإشراف على تنفيذ قرار الاستقلال من خلال دعم ومساعدة أهل البلاد على استحقاق تقرير مصيرهم في إنشاء دولة مستقلة ذات سيادة بنظام حكم دستوري ديمقراطي.

وكان ذلك المندوب الأممي الخاص هو السيد أدريان بلت (السويدي) الذي ترأس بعثة أممية أشرفت على عملية اختيار هيئة دستورية من ستين شخصية ليبية تمثل أقاليم البلاد الثلاث لصياغة دستور وطني بمعاونة خبراء دستوريين وفرتهم البعثة الأممية، وقد تم إنجاز صياغة الدستور وموافقة هيئة الستين الدستورية عليه قبل أشهر من موعد الاستقلال في 24 ديسمبر 1951..

بعد قرابة ستين عاماً على استقلال ليبيا تعود هيئة الأمم المتحدة ممثلة في مجلس الأمن لتصدر في مارس 2011 القرار (1973)، الذي يجيز التدخل العسكري الدولي لحماية المدنيين، وقد تلقى معظم الليبيين القرار باعتباره فرصة تاريخية تُتاح لهم من جديد لنيل استقلالهم الثاني من سيطرة النظام الفاشي المحلي.

وكما عُين ممثل أممي خاص لتمكينهم من تأسيس دولة الاستقلال الأول، تم تعيين ممثل أممي خاص يترأس بعثة فنية لدعمهم في بناء دولتهم من جديد. ولأن ليبيا القرن الواحد والعشرين ليست كما كانت عليه ليبيا منتصف القرن العشرين، توالى على منصب الممثل الأممي الخاص ثلاث شخصيات خلال أربع سنوات: طارق متري اللبناني وبرناردينو ليون الإسباني وأخيراً وربما ليس آخراً مارتن كوبلر الألماني.. لماذا؟

ليبيو اليوم ما عادوا بطبيعة الحال هم أولئك الليبيون البدو البسطاء غداة نهاية الحرب العالمية الثانية، حين كانت ليبيا يوم استقلالها أفقر دولة في العالم، خزانتها فارغة تماماً، وسكانها فوق المليون بقليل. الأمية تتجاوز نسبة 95 في المئة. 15 في المئة من السكان مصابون بالعمى جراء مرض التراكوما. ولم يتجاوز عدد المتحصلين على شهادة جامعية من خارج البلاد أصابع اليدين على أعلى تقدير، إذ أن المستعمر الإيطالي لم يكن يسمح لليبيين بالتعلم ما بعد المرحلة الابتدائية.

لذلك قادت تلك النخبة المتعلمة القليلة من جامعيين ومتوسطي تعليم مع شيوخ القبائل الحكماء عملية تحول سياسي سلس، أسفرت عن تبني دستور ديموقراطي علماني بنظام حكم ملكي برلماني لم يكن له مثيل في المنطقة العربية.

حدث في خضم موجة انقلابات الستينات أن سقطت ليبيا في قبضة انقلاب عسكري قاده ملازم أول، قام على الفور بإلغاء الدستور الليبي وإزالة نظام الحكم الملكي واعتبار استقلال ليبيا (24/12/1951) استقلالاً مزيفاً، ورجالات نظام دولة الاستقلال وحكومتها رجعيين خونة.

ثم، بعد قرابة 42 عاماً من الحكم العسكري الانقلابي، ومع إشعال “البوعزيزي” جسده بياناً ضد الامتهان، لم يُصب الليبيون مباشرة بالعدوى التونسية، فقد قفزت عنهم وأصابت جيرانهم المصريين من جهة الشرق. لكنها سرعان ما ارتدت عليهم من الجانبين.

وعكس بن علي ومبارك، اختار القذافي خيار: “أحكمكم أو أقتلكم”. وهنا، عادت الأمم المتحدة، بعد ستة عقود، ممثلة في مجلس الأمن، كي تتبنى قضية الليبيين في التحرر من نظام الديكتاتور الفاشي المحلي كما سبق وتبنت قضية تحررهم واستقلالهم من المستعمر الفاشي الأجنبي.

ولا مجال هنا للخوض في تفسير المعطيات والأسباب التي أجازت لمجلس الأمن إصدار القرار رقم 1973 بالتدخل العسكري الدولي لحماية المدنيين في “الثورة الليبية” وكأنها “وردة” استثنائية في حديقة “الربيع العربي”.. فما حصل أنه بفضل التدخل العسكري الجوي الدولي (بقيادة الناتو) تمكن الثوار على الأرض في أشهر قليلة من تحرير العاصمة والقبض على الطاغية وقتله.

لكن الليبيين بعد سقوط نظام القذافي واندثار دولته بحسبانها دولة الشخص الواحد، تحيا به وتموت معه، ما عادت لهم أية علاقة، تفكيراً وممارسة، بأولئك الليبيين الذين كانوا على ما هم عليه زمن دولة الاستقلال الرومنسية. الليبيون في 2011 ثاروا في معظمهم بهدف مشترك واضح، عنوانه الخلاص من الطاغية والتحرر من نظامه.

ولكنهم بعد مرور الفرحة البهيجة على أشهر العسل الأولى للثورات، سرعان ما وجدوا أنفسهم يتورطون في ألف قذافي وقذافي من أمراء الحرب وسياسيّي الأجندات الايديولوجية وتفشي الجماعات الإرهابية واللصوصية.. فماذا قد يفعل ممثل أممي في خضم وضع كهذا؟

طارق متري كان لبنانياً تصرف مع المسألة الليبية بخفة السياسة السياحية، حتى أنه حاول أن يطبق منهج المحاصصة الطائفية اللبنانية على الواقع الليبي بالنظر إلى تركيبة نفوذ أمراء الحرب المتنافسين على غنيمة العاصمة متمثلين في تيار ميليشيات “تحالف القوى الوطنية” من جهة، وميليشيات “تحالف الإسلام السياسي” من جهة أخرى.

وفي النهاية احترقت أوراق متري فأُقيل ليعين بدله الإسباني برناردينو ليون. كان ليون وسيطاً ذكياً، وإن شغل باله كثيراً تحسين ملف سيرته العملية (C.V).  إلا أنه يمكن القول إنه نجح في تناول المسألة الليبية كصورة شاملة لعدة مستويات من خلال التواصل ما بين الفرقاء السياسيين المتمثلين في مؤسستي الشرعية المتنازعتين: المؤتمر الوطني العام ومجلس النواب. وأضاف إليهم عمداء البلديات، والقوى السياسية من حزبيين ومستقلين والقوى المجتمعية المؤثرة من ممثلي منظمات المجتمع المدني وأعيان القبائل.

لكن الظروف لم تكن ناضجة كي يكون هو لا غيره من يحضر التوقيع على الاتفاق الذي تحقق في عهدة الممثل الأممي البديل الألماني مارتن كوبلر، الذي واصل العملية السياسية في ليبيا من حيث تركها برناردينو ليون، قائلاً إن: “ليون هو ليون. وكوبلر هو كوبلر”. وكان حقاً مختلفاً عن ليون في الأسلوب وطريقة التعامل.

إذ ظهر نشاطه الدبلوماسي مباشرة غداة استلام مهامه أكثر ذكاءً وأكثر وضوحاً ومصداقية وعلى نحو متسارع في تحصيل النتائج، لا سيما بعد مؤتمر روما 13 ديسمبر 2015، الذي شارك فيه وزراء خارجية الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي، إضافة إلى ممثلين عن وزارات خارجية تونس والإمارات وتركيا، وممثلين عن الاتحاد الأوروبي، دعوا فيه بشكل واضح وحاسم إلى ضرورة تشكيل حكومة وفاق حتى يتمكن المجتمع الدولي من التعامل معها. وبعده بأربعة أيام وقع، في مدينة الصخيرات المغربية، غالبية الأعضاء في الجسمين التشريعيين (مجلس النواب في شرق البلاد والمؤتمر الوطني في غربها) وشخصياتٌ سياسية حزبية ومستقلة اتفاقًا لحل الأزمة الليبية برعاية الأمم المتحدة، يهدف في الأساس إلى تشكيل حكومة توافق تقود البلاد في مرحلة انتقالية لإنجاز الدستور ومن ثم الاستفتاء عليه وإجراء انتخابات تشريعية ورئاسية وبلدية.

هنا ظهر تحالف المتضررين من الذين فقدوا نفوذهم السياسي في الاتفاق، وعلى رؤوسهم رئيسا الجسمين التشريعيين المتخاصمين، حليفين ودودين متفقين على رفض اتفاق “الصخيرات” ومعتبرين حكومة التوافق المقترحة حكومة وصاية دولية وليست نتاج حوار ليبي/ليبي..  ولكن ما تأثير اعتراضهما أو رفضهما في مسار عملية اتفاق سياسي برعاية القوى الكبرى؟

بالنسبة لنوري بوسهمين رئيس “المؤتمر الوطني العام ـ طرابلس” لم يتبق معه من الأعضاء سوى أقلية ضعيفة جدا، لا وزن سياسي لها. وليس معه (عسكرياً) سوى مليشيات قزمية بعدما انضمت كبرى مليشيات مصراتة إلى صف المؤيدين لمشروع التوافق الوطني.

أما حليفه عقيلة صالح رئيس “مجلس النواب ـ طبرق” فقد أيد أكثر أعضاء المجلس وشيوخ قبائل برقة اتفاق الصخيرات، الذي تبناه مجلس الأمن بالرعاية والدعم حسب قرار (2015) الصادر في 23 ديسمبر 2015..

فهل ستنجح الأمم المتحدة في اللعب من جديد دور الأب (الأممي) المتبني للشعب الليبي بحيث تلمه في سياق مشروع سياسي جامع لبناء دولة مستقرة بنظام ديموقراطي، انطلاقاً من تنفيذ مخرجات التوافق الوطني حسب اتفاق الصخيرات؟

إنه سؤال برسم التحديات المصيرية بالنظر إلى واقع الانقسام السياسي والاحتراب الجهوي وبؤر الارهاب المتفشي. التشاؤم هو سيد الموقف في آراء الليبيين. والاعتقاد الرائج بلغة متهكمة أن حكومة السراج سوف تكون الزوجة الثالثة!