يتكئ البحار التونسي “الشتاوي علية” على زورقه الصغير الذي لم يستعمله منذ ثلاثة أشهر لصيد الأسماك وعلامات الحيرة بادية على وجهه من ضيق الحال.

لم يستطع هذا الرجل (55 سنة) أن يعود أدراجه إلى منزله يجر وراءه أذيال الخيبة بل بقي شارد الذهن حائرا ينظر بعينين يائستين إلى البحر عن حل ينقذه. يقول لمراسلون “بماذا سأجيبهم عندما أعود؟ لقد عجزت لليوم الثالث على التوالي عن توفير قوت عائلتي ولم أجد في البحر ما أستطيع بيعه”.

يتكئ البحار التونسي “الشتاوي علية” على زورقه الصغير الذي لم يستعمله منذ ثلاثة أشهر لصيد الأسماك وعلامات الحيرة بادية على وجهه من ضيق الحال.

لم يستطع هذا الرجل (55 سنة) أن يعود أدراجه إلى منزله يجر وراءه أذيال الخيبة بل بقي شارد الذهن حائرا ينظر بعينين يائستين إلى البحر عن حل ينقذه. يقول لمراسلون “بماذا سأجيبهم عندما أعود؟ لقد عجزت لليوم الثالث على التوالي عن توفير قوت عائلتي ولم أجد في البحر ما أستطيع بيعه”.

يتذكر الشتاوي الذي يعمل في مجال صيد الأسماك منذ أكثر من أربعين عاما كيف كان خليج قابس “جنة على وجه الأرض” قبل تشييد المجمع الكيميائي قبل 35 عاما.

وتعتمد غنوش على الصيد البحري لتوفير لقمة عيش أبنائها، إلا أن موارد الصيادين (يبلغ عددهم نحو 1700 صياد) تراجعت بسبب موجة التلوث التي تسبب بها المجمع الكيميائي بمدينة قابس.

يقول الشتاوي مسترجعا ذكرياته السعيدة “كان عملي يضمن لي مكسبا كبيرا وبفضله تمكنت من الزواج وبناء منزل خاص بي والاستمتاع بلذة الحياة وكرامة العيش”.

ويضيف “في السابق كانت شباكنا تعجز عن استيعاب كميات الأسماك الوفيرة وكنا نبيع ما نصطاده في جميع المدن المجاورة لمدينتنا ونجني أرباحا طائلة”.

ثم يصمت الشتاوي قليلا قبل أن يستعيد واقعه المرير ويقول بمرارة “الآن أصبحت النشاط في قطاع الصيد البحري كابوسا. لقد بلغت الأزمة ذروتها هذا العام”. ويضيف “لم أعد قادرا على توفير مستلزمات العيش لأبنائي الخمسة وأصبحت مهددا بقطع الكهرباء عن منزلي لعدم قدرتي على سداد فاتورة الاستهلاك”.

مشكلة الشتاوي لا تخصه وحده فأغلب بحارة جهته يعانون من نفس المشاكل إلى درجة أنهم أصبحوا يهددون السلطات بالهجرة الجماعية بقواربهم الصغيرة إلى سواحل إيطاليا.

وبحسب حديثهم لمراسلون فإن فشل المفاوضات مع السلطة لإيجاد حلول لمشاكلهم دفعهم إلى التفكير في هذه الخطوة.

يقول الشتاوي إن يفكر جديا في ترك بلدته وأخذ عائلته معه باتجاه سواحل إيطاليا، معتبرا أن الحياة لديه أصبحت “بطعم الموت” في ظل عجزه عن توفير قوته اليومي.

ويضيف لمراسلون “زوجتي وأبنائي الخمسة يعيشون على نظام الأكلة الواحدة في اليوم وهم يرتعشون من شدة البرد تحت سقف بيت آيل في أي لحظة للسقوط”.

ورغم إصرارهم على تغيير واقعهم فإن الأحوال الجوية السيئة هذه الأيام في خليج قابس حالت دون تنفيذ تهديد عشرات البحارة بالهجرة إلى إيطاليا، حسب قول الشتاوي.

الفقر والجوع في قرية الصيادين غنوش لا يقتصران فقط على العاملين في البحر وإنما طال أكثر من 500 امرأة يعملن في مجال صناعة الشباك ومعدات الصيد البحري.

فقد تراجعت مداخيلهن بعد توقف الإنتاج كليا في صيد الأسماك وهو ما أدى بشكل مباشر في تراجع الحركة التجارية في قرية غنوش التي تعتمد أساس على الصيد البحري.  

ويتكون المجمع الكيميائي بقابس الذي أنشأ سنة 1979 من 13 وحدة إنتاج مواد كيميائية أغلبها مخصص لصناعة مادة الفليور.

وحول حقيقة التلوث يقول المهندس المختص في الكيمياء الصناعية بمصنع الحامض الفسفوري بقابس ماهر الزيدي لمراسلون إن مصانع المجمع الكيميائي تسببت في تلوث البحر نتيجة إلقاء 15 ألف طن يوميا من مادة “الفسفوجيبس”.

ويضيف بأن تواصل القاء تلك المادة وغيرها من الفضلات الكيميائية والسوائل المستعملة في البحر منذ حوالي 4 عقود تسبب في تصلب الرمال التي أصبحت شبيهة بالأرصفة في قاع البحر “وهو ما أدى إلى القضاء على الأعشاب البحرية التي تفضلها الأسماك أثناء التناسل والولادة مما أجربها على هجر المنطقة”.

 وعلى عكس بقية السنوات يخيم هدوء حذر على مدينة غنوش التي ينتظر أهلها الثلاثة أشهر الأخيرة من كل سنة بفراغ الصبر للشروع في صيد الرخويات على غرار الأخطبوط.

وتعتبر هذه الفترة موسم جني الربح الطائل للصيادين لتسديد ديونهم وادخار بعض الأموال. لكن هذا العام لم يكن مبشرا لأهالي المدينة بسبب التلوث الذي أصاب البحر.

وتسود حالة من الغضب لدى الأهالي من السلطات المتعاقبة على الحكم بعد الثورة بسبب فشلها في حل مشاكل التلوث البيئي والصيد العشوائي التي يعاني منها بحارة قابس.

ورغم أن إدارة المجمع الكيميائي منحت الأهالي تعويضات مالية عن التلوث وذلك إثر احتجاجات عارمة وصدمات عنيفة مع قوات الأمن إلا أن تلك التعويضات لم تسكت تذمر الأهالي.

وحتى المفاوضات المتعثرة التي انطلقت قبل أسبوعين بين البحارة والسلطات المحلية تزامنت لسوء الحظ مع ظهور زائر غريب لم يكن موجودا في خليج قابس قبل سنوات.

فقد تفاجأ البحارة بظهور “سرطان البحر الأزرق” الذي أجهض على ما تبقي من أسماك في البحر ومزق معدات الصيد البحري التقليدية وتسبب في خسائر كبيرة للبحارة المفلسين.

ويعتقد صيادو البلدة أن هذا النوع من السرطان “العدواني” قادم من البحر الأحمر ملتصقا ببواخر كبيرة الحجم ترسو في الميناء التجاري القريب من منطقة صيدهم.

وفي حديث لمراسلون يقول الساسي علية رئيس مجمع التنمية للصيد البحري بغنوش وهو أيضا صياد “لا يشكل هذا السرطان خطرا على حياة البشر لكنه كبدنا خسائر فادحة”.

ويضيف “هذا النوع من السرطان البحري أحال معظم الصيادون على البطالة نظرا لتعويلهم على معدات صيد تقليدية يسهله تمزيقها إضافة لتعمده مهاجمة الأسماك وقضم جزئها الأسفل”.

ولم تصدر الحكومة التونسية لحد اليوم تقرير رسمي يفسر أسباب تواجد هذا السرطان الذي ينتشر في خليج قابس بشكل غريب جدا بحسب شهادات البحارة.

وربّ ضارة نافعة، فقد اقترح مشروع التعاون الياباني-التونسي على البحارة الشروع في اصطياد هذا النوع من السرطان بعد التأكد من سلامته تمهيدا لتخزينه وتصديره.

لكن صيادو قابس ما زالوا متمسكين بتنفيذ وعود الحكومة في التصدي ومقاومة التلوث وبعث صندوق تعويض للصيادين ومشاريع تنموية ذات صلة بقطاع الصيد البحر.

من وجهة نظر رسمية يقول مصدر من إدارة المجمع بقابس (فضل عدم ذكر اسمه) لموقع مراسلون إن الحكومة عام 2011 أحدثت لجنة للنظر في مطالب أهالي المتضررة من التلوث وقامت بصرف 2 مليون دينار تونسي (حوالي مليون دولار أمريكي) للبحارة المتضررين في البحارة في منطقتي “غنوش” و”شط السلام”.

وأكد بأن إدارة المجمع الكيميائي بقابس قامت قبل ثلاث سنوات بانتداب المئات من أبنائهم للعمل في مصانع المجمع مضيفا بأن إدارة المجمع ساهمت أيضا في إقامة بعض المشاريع الصغرى لفائدة منطقتهم.

ولا ينفي هذا المصدر الأرقام المصرح بها حول كميات “الفسفوجيبس” التي تلقى يوميا في البحر لكنه يقول متسائلا “أين سنلقي هذه المادة؟ اقترحنا نقلها عبر أوعية ودفنها في المناطق الخالية من السكان لكن مكونات المجتمع المدني تصدت بشراسة لهذا المقترح خوفا من تلوث مياه الشرب”. 

في الأثناء تظل الحياة قاسية بالنسبة لهؤلاء البحارة الذين يتهمون الحكومة بعدم الجدية في إخراجهم من ضيق الحال لاسيما وأن الحكومة ترفض نقل مصانع المجمع الكيميائي المنتصبة بالجهة باعتبارها تضمن عائدات بالمليارات من العملة الصعبة لخزينة البلاد.