يواصل أهالي محافظة قابس جنوب البلاد احتجاجاتهم لمطالبة المجمع الكيميائي بالتوقف عن إلقاء مادة “الفسفوجيبس” وفضلات المواد الكيميائية السامة في مياه البحر.

ويلقى بالأطنان من مادة “الفسفوجيبس” يوميا في مياه البحر جراء غسل الفسفاط المستخرج من مناجم محافظة قفصة، في مغاسل مخصصة في المجمع الكيميائي بقابس.

ويعجز المجمع عن تصريف هذه المادة إلا عبر إلقائها في البحر، وهو ما تسبب في كارثة بيئية تسببت في نفوق الأسماك وسلاحف البحر وتضرر أرزاق البحارة وتدهور الصحة.

أطنان من السم

وتفيد الأرقام الرسمية الصادرة عن إدارة المجمع الكيميائي، بأن المصانع تلقي نحو 29 ألف طن من “الفسفوجيبس” يوميا في البحر عبر وادي أنشئ لهذا الغرض لربط المصانع بمياه البحر، مع تركيز مضخة مياه عالية التدفق لتصريف “الفسفوجيبس” وعدم تراكمه في الوادي.

وبمتابعة مسار تدفقه في مياه البحر يتبين أنه يتسرب إلى مسافة مئات الأمتار على مستوى الشاطئ ويبلغ المناطق التي يختارها بعض الصيادين للصيد وأيضا مواقع السباحة القريبة من الأحياء السكانية.

ويقول صيادون إن البحر كان يحتضن قبل إنشاء وحدات الصناعات الكيمائية أكثر من 250 نوع من أنواع الحيوانات البحرية، قبل أن يتقلص هذا العدد بداية التسعينات إلى 50 نوعا ولم يتبق منها إلا 6 أنواع فقط بحسب مصالح الصيد البحري والرصد الميداني للبحارة.

مأساة الصيادين

وفي هذا الصدد يقول الصياد الجيلاني الغول لمراسلون “أغلب زملائي الصيادين هجروا هذه المهنة بعد فقدان موارد رزقهم والاضطرار لبيع مراكبهم. فقد كان عددنا يتجاوز 2500 بحار وأصبحنا اليوم بالعشرات”.

ويضيف بحسرة بأن موجة التلوث في البحر “اغتالت” الثروة السمكية بعد تحول الرمال إلى “أرصفة” مغطاة بمادة “الفسفوجيبس”، وهو ما تسبب في القضاء على الأعشاب البحرية التي كانت تأتي من أجلها الأسماك من مختلف مناطق العالم للتناسل والولادة، وفق قوله.

ويقاطعه زميله رضا الغودي صارخا “ليس الأعشاب فقط كانت تغري الأسماك للمجيء إلى هذه المنطقة. بحرنا هو خليج فريد من نوعه في حوض المتوسط مما يميزه بمناخ معتدل يوفر محضنة لمختلف أنواع الأسماك وخاصة الرخويات. قبل ثلاثين سنة كنا نجني أربحا طائلة طيلة أشهر السنة وشباكنا كانت تعجز على استيعاب كميات الأسماك التي نصطادها في البحر”.

نفوق الأسماك

ويروي هؤلاء البحارة أنهم صاروا مجبرين على الصيد في المدن المجاورة أو الابتعاد مئات الكيلومترات عن سواحل قابس، للعثور على الأسماك بعيدا عن تراكم “الفسفوجيبس” في البحر.

كما رصدوا أكثر من مرة نفوق كميات من الأسماك والسلاحف العملاقة النادرة التي تختنق بمادة “الفسفوجيبس”، فور اقترابها من ساحل البحر المحاذي مباشرة للمصانع الكيمائية.

ولم تعد الانعكاسات السلبية الناجمة عن تلوث مياه البحر في قابس مقتصرة فقط على الكائنات البحرية، وإنما صارت تهدد كذلك سلامة البشر بعد ظهور أمراض جلدية جديدة على أجساد أغلب البحارة العاملين في هذه المنطقة.

خطر السباحة

وطالما تحذر مصالح الصحة وحفظ المحيط بوزارة الصحة أهالي قابس من السباحة في بحر منطقتي “غنوش” و”سيدي عبد السلام” المحاذيتين لمصانع المجمع ومصب “الفسفوجيبس”. ويأتي ذلك بعد ورود شاطئ قابس ضمن قائمة شواطئ الصنف الأخطر والرديئة جدا في تونس وفقا لتحليلات علمية أنجزتها الوزارة لمدة ستة أشهر.

ويؤكد مسؤول حماية المحيط بإدارة الصحة في قابس مسعود شنيب لمراسلون بأنه راسل رسميا البلدية لإبلاغها بثبوت تلوث مياه البحر في هذه المناطق ومطالبتها بتركيز لوحات تشير إلى منع السباحة تفاديا لتعرض المواطنين إلى أمراض قد تتطور إلى سرطان الجلد.

ولا يتطلب ثبوت تلوث مياه البحر في قابس معدات وآلات مجهرية متطورة، فمجرد الوقوف على الشاطئ يبرز للعين المجردة مياه سوداء تطفو فوقها آلاف الكريات صغيرة الحجم.

ويفيد مهندس الكيمياء الصناعية ماهر الزيدي أن هذه الكريات تتشكل فور إلقاء مادة “الفسفوجيبس” في البحر قبل أن ترسو بقاع البحر.

انتشار وبائي

ويضيف الزيدي في حديثه مع مراسلون أن المنظمات الدولية والجهات الحكومية قامت سنتي 2013 2014 بدراسات ميدانية للوقف على حجم تلوث مياه البحر في قابس، وهو ما أظهر أن المناطق الساحلية المحاذية لمصانع المجمع الكيميائي بلغت الدرجة القصوى من التلوث، بعد تحاليل عينات رفعت من ستة مناطق.

ولا ينفي أن نتائج التحاليل كانت صادمة لجميع الأطراف المتداخلة في هذا الموضوع، خاصة بعد التأكد أن مادة “الفسفوجيبس” امتدت لمساحة 60 كلم مربع، مما يثبت أنها بلغت بحيرة بوغرارة بمحافظة مدنين التي تبعد حوالي 50 كلم عن مصب “الفسفوجيبس”.

ويفسر قائلا “امتداد الفسفوجيبس إلى هذه البحيرة وجزيرة جربة يأتي نتيجة تأثيرات التيارات البحرية أثناء المد والجزر وهو تؤكده دراسات المعهد الوطني لتكنولوجيا البحار التي بحثت عن التفسيرات العلمية المنطقية لتراجع إنتاج الأسماك حتى في المناطق المجاورة لخليج قابس”.

وجاءت الدراسات المذكورة نتيجة للحرية التي تمتع بها الشعب التونسي بعد سقوط نظام الرئيس السابق بن علي، الذي كان يمنع انجاز أي نوع من البحوث حول التلوث البحري الناجم عن صناعة المواد الكيمائية في المجمع الكيميائي بقابس.

وتسعى السلط المحلية منذ سنوات إلى إيجاد حلول لإنهاء مشكلة تلوث مياه البحر، بعد الضغوطات الشعبية المطالبة بغلق مصب “الفسفوجيبس”.

ويقول مدير فني بالمجمع الكيميائي (فضل عدم الكشف عن اسمه) بأن الإدارة تعمل حاليا على نقل أطنان “الفسفوجيبس” إلى مدينة “وذرف” ودفنها تحت الأرض بعد دراسة عملية تثبت عدم تضرر المياه الجوفية أو تسرب إشعاعات سامة. لكن هذا الأمر يرفضه أهالي المدينة خوفا من أي انعكاسات سلبية على الأراضي الفلاحية وصحة المواطنين.

وأنشئ المجمع الكيميائي التونسي بجهة قابس بداية السبعينات على ضفاف شاطئ قابس، دون مراعاة قربه من وسط المدينة وخطورة تأثير انتاجه على سلامة البحر والمحيط.

وكان إنشائه دافعا لعدة مصانع أخرى تابعة للقطاع الخاص للتمركز في المنطقة وتطوير منطقة صناعية ضخمة بلغ عدد مؤسساتها 26 مصنعا. مما ضاعف حجم النفايات الكيمائية التي تلقى في البحر وبلوغ مرحلة تعجيزية للقضاء على هذا النوع من التلوث.