ما حدث في ليبيا ليس كما حدث في تونس ومصر. في تونس، كما في مصر، كان للمؤسسة العسكرية الدور الحاسم في إزاحة الطاغية عن السلطة. الجنرال رشيد عمار قائد الجيش في نظام بن علي هو من أجبر “الزين” على ترك السلطة وأتاح له وعائلته الهروب إلى منفاه في جدة. والمشير محمد طنطاوي وزير الدفاع والقائد العام للقوات المسلحة في ظل ديكتاتورية مبارك، هو الذي تولي حكم مصر بصفته رئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة بعد تنحي الديكتاتور العجوز في 11 شباط/فبراير 2011 وحتى تسلم الرئيس المنتخب منصبه في 1 تموز/يوليو 2012.    

ما حدث في ليبيا ليس كما حدث في تونس ومصر. في تونس، كما في مصر، كان للمؤسسة العسكرية الدور الحاسم في إزاحة الطاغية عن السلطة. الجنرال رشيد عمار قائد الجيش في نظام بن علي هو من أجبر “الزين” على ترك السلطة وأتاح له وعائلته الهروب إلى منفاه في جدة. والمشير محمد طنطاوي وزير الدفاع والقائد العام للقوات المسلحة في ظل ديكتاتورية مبارك، هو الذي تولي حكم مصر بصفته رئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة بعد تنحي الديكتاتور العجوز في 11 شباط/فبراير 2011 وحتى تسلم الرئيس المنتخب منصبه في 1 تموز/يوليو 2012.    

في ليبيا التي كانت في قبضة نظام الشخص الواحد (الطاغية المؤله)، تم القضاء على شخصه فانهار جيش كتائبه الأمنية وسقط نظامه واندثرت مؤسسات دولته الهشة التي صنعها لتكون في خدمة سلطانه الفردي المطلق.. فماذا كان البديل؟ كان الثوار.

لم يتجاوز تعدادهم، حسب التقدير – المبالغ فيه – العشرين ألفا غداة التحرير، ثم بسرعة صاروخية فاق تعدادهم حسب قوائم المكافآت ربع المليون، منضوين في مئات الكتائب. ولم تكن المشكلة في تعدادهم أو مصروفات مكافآتهم الهائلة. إنما في كون معظمهم يتبعون أمراء حرب متعددي المشارب: آيديولوجية ـ سياسة أو جهوية ـ قبلية أو لصوصية ـ إجرامية.

على المستوى السياسي حكم المشهد الليبي منذ انتفاضة 17 شباط/فبراير 2011 تشكيلة نخبوية سياسية ـ فكرية من مؤيدين سابقين لمشروع سيف الإسلام القذافي لوراثة حكم أبيه، على رأسهم الإخوان المسلمون، مختلطين بمثقفين ليبراليين ويساريين متلونين ومنشقين عن النظام في الساعات الأخيرة.

استغل الإخوان كتنظيم محلي سري الانتفاضة العفوية غير المؤدلجة في ترسيخ نفوذهم  السلطوي لا سيما بعد تدخل الطيران الفرنسي في 19 آذار/مارس 2011.

سياسيا: اندسوا في عضوية  المجلس الانتقالي والحكومة الانتقالية. عسكريا: أسسوا كتائب يسلحها النظام القطري. إعلاميا: اعتمدوا قناة الجزيرة وقنوات إعلام محلية بمال قطري. وفي الوقت نفسه كانت “القبائل المنتصرة” تتسلح بكل ما تملك مما نهبت من أسلحة ومقدرات بعد سيطرتها على مراكز أملاك “الدولة” في العاصمة، والحديث هنا عن مليشيات مصراتة والزنتان، وذلك كان أساس الحرب فيما بعد على مطار طرابلس. الحرب التي تطورت إلى خلط أوراق دموية بين قبائل وجهويات في المنطقة الغربية.

في المنطقة الشرقية المعطيات مختلفة عنها في المنطقة الغربية. فهناك كانت المليشيات المسيطرة فعلياً، في بنغازي ودرنة، تعتنق، بشكل معلن، “عقيدة القاعدة” بما تعنيه من تكفير لمفهوم الدولة الحديثة والديمقراطية واعتبار كل من يعمل في الدولة يمثل الطاغوت ولو كان مجرد شرطي مرور. وعليه تم اغتيال المئات من عناصر الجيش والشرطة وكذلك إعلاميين ونشطاء مجتمع مدني، وحتى شيوخ دين معارضين للإرهاب باسم الإسلام.

ومن هنا ظهرت حركة “الكرامة” العسكرية متكونة، في الأساس، من ضباط وجنود الجيش المهمشين بعد “ثورة 17 فبراير”، وانضم إليهم فيما بعد كتائب مقاتلة سابقاً في جبهات “ثورة 17 فبراير” ومتطوعين مناصرين لهم. وكان للواء خليفة حفتر الدور القيادي في تجميع هذه القوة. وبغض النظر عن أي ملاحظات سلبية عن شخصيته أو طموحاته السلطوية المفترضة أو ارتباطه بأجندة خارجية (مصر/ الإمارات/ السعودية/…) فإن الليبيين، في المنطقة الشرقية – على الأقل – أيدوا بغالبيتهم الساحقة عملية “الكرامة” العسكرية للخلاص من الظلاميين.

وتمكنت ضربات الجيش وأنصاره من تكبيد ما يسمى “مجلس ثوار بنغازي” خسائر فادحة في الأرواح والعتاد. حتى تحول مقاتلوه إلى جماعات صغيرة  متناثرة. وهم على وشك أن يمسوا في وضعية الذئاب المنفردة.

درنة إمارة داعشية بامتياز. لكنها ليست بصعوبة بنغازي. أي أن أمرها محسوم بعد “تحرير” بنغازي. أقول ذلك من واقع صلتي المباشرة بالمنطقة الشرقية حيث أجمعت كل القبائل على التبرؤ من كل من لا يمتثل لشرعية الدولة.

في المنطقة الجنوبية المعطيات مختلفة عنها في المنطقة الغربية والشرقية. فالمنطقة الجنوبية تقع في ليبيا جغرافياً لكنها اجتماعيا وثقافيا تقع في تناقضات خليطها: طوارق وتبو وعرب والكثير من المهاجرين الأفارقة. مع ذلك فإن ذلك الجنوب الذي كأنه لا يقع في ليبيا – المحكومة بين الشرق والغرب – سلسل القياد إلى فكرة الدولة الموحدة. وهي فكرة  أصبحت غائبة اليوم في ظل الانقسام السياسي القائم بين الغرب والشرق فيما الجنوب بعضه يميل لهذا وبعضه الآخر لذاك.

الغرب والشرق يتنازعان الشرعية السياسية والثورية: حكومتان وبرلمانان ومحافظان  للبنك المركزي. وكذا جيشان: من جهة قوات تمثل ما يسمى “فجر ليبيا” في الغرب، ومن جهة أخرى قوات ما يسمى “عملية الكرامة”.. فأيهما الأحق بشريعة الحكم؟!

منطقياً، الأمم المتحدة والمجتمع الدولي يعترفون بمجلس النواب بحسبانه الممثل الشرعي الوحيد للدولة الليبية. لكن ذلك لا يحسم المسألة. ولن يحسمها الحوار الذي يقوده برناردينو ليون ممثل الأمم المتحدة في ليبيا.. هي الحرب إذن إلى أن يُسلم أحد الطرفين بهزيمة مشروعه.

من جهة مشروع “فجر ليبيا” السياسي ـ العسكري القائم على تحالف إسلاموي يضم الإخوان والجماعة الليبية المقاتلة وسلفيين جهاديين، ومن جهة أخرى مشروع مدني حتى لا نقول علماني يمثله سياسياً مجلس النواب بطبرق والحكومة المنبثقة منه، ويمثله عسكريا “عملية الكرامة” التي يقودها الفريق خليفة حفتر.. وفي انتظار انتصار أحد الطرفين تبقى ليبيا تُقرأ من اليمين ومن اليسار!