يقال إن “التاريخ يعيد نفسه” والعبارة تُنسب إلى الفيلسوف المثالي هيجل (1770ـ1831م).  لكن رائد هذه الرؤية هو ابن خلدون (1332ـ 1406م) مؤسس علم الاجتماع الذي تبصّر في فلسفة التاريخ فرأى أن العمران البشري (أي المجتمع الإنساني ـ في كل الحضارات)، محكوم (في جوهره التاريخي) بمسار دائري ينتظم في ثلاث حقب، وهي حقبة بداية (نشوء العمران البشري)، ثم حقبة الازدهار الحضاري ثم حقبة الانحطاط. ولينهض العمران البشري من وضعية الانحطاط في بداية حضارية جديدة فازدهار فانحطاط وهكذا دواليك.   

يقال إن “التاريخ يعيد نفسه” والعبارة تُنسب إلى الفيلسوف المثالي هيجل (1770ـ1831م).  لكن رائد هذه الرؤية هو ابن خلدون (1332ـ 1406م) مؤسس علم الاجتماع الذي تبصّر في فلسفة التاريخ فرأى أن العمران البشري (أي المجتمع الإنساني ـ في كل الحضارات)، محكوم (في جوهره التاريخي) بمسار دائري ينتظم في ثلاث حقب، وهي حقبة بداية (نشوء العمران البشري)، ثم حقبة الازدهار الحضاري ثم حقبة الانحطاط. ولينهض العمران البشري من وضعية الانحطاط في بداية حضارية جديدة فازدهار فانحطاط وهكذا دواليك.   

ثم جاء ماركس (1818ـ1883) الفيلسوف المادي، ففسر عبارة هيجل بمنطق فلسفته التاريخية قائلاً “أشار هيجل إلى أنَّ كل الأحداث الكبرى والشخصيات التاريخية تتكرَّر مرَّتين؛ ولقد نسي أنْ يقول موضحاً إنَّها (الأحداث والشخصيات) تظهر في المرَّة الأولى في شكل مأساة، وفي المرَّة الثانية تظهر في شكل مهزلة”.

يقصد ماركس أن التاريخ يعيد نفسه، بمعنى استمرارية الصراع الطبقي بين مَن يملكون ومَن لا يملكون، وبالتالي تكرار طبيعة الأحداث وأنماط الشخصيات دون أن يلغي ذلك حقائق التغيير والتطور، التي تنتج عن عملية الصراع الطبقي عبر التاريخ.

هيجل استعان بمنهج الجدلية المثالية في تفسير صيرورة التحولات التاريخية بينما اعتمد ماركس الجدلية المادية في تفسير طبيعة تحولات الصراع الطبقي في مسار الحركة والتقدُّم.

أما ظهور الأحداث والشخصيات في المرة الثانية على شكل مهزلة فقد جاءت في سياق تحليله المتهكم على تدهور النظام الألماني القديم في ثلاثينيات وأربعينيات القرن التاسع عشر كنظام قديم عتيق يكرر بشكل هزلي المأساة التي أصابت النظام الفرنسي القديم.

لكن ما علاقة ذلك بالحالة الليبية؟!

في الجوهر التاريخي: لا علاقة، إلا من حيث المقاربة/المُفارِقة. بمعنى أن تكرار التاريخ لنفسه من صورة المأساة إلى صورة المهزلة قد تحدث في وضعيات تاريخية ليست بالضرورة مطابقة لشروط موحدة.

وصورة المهزلة يعبر عنها الوضع السياسي الذي قد يسبب في حالة تأزمه في وجود  دولة هشة تتآكلها نزاعات مسلحة، تتطور إلى احتراب عبثي على نطاق واسع. ونقصد هنا الحالة الليبية.

وإذا كان التاريخ يعيد نفسه، بمعنى استمرارية الصراع الطبقي بين مَن يملكون ومَن لا يملكون وبالتالي تكرار طبيعة الأحداث وأنماط الشخصيات دون أن يلغي ذلك حقائق التغيير والتطور التي تنتج عن عملية الصراع الطبقي عبر التاريخ، فإن ذلك لا ينطبق على “الحالة الليبية” إذ أنها بلا وجود طبقي فعلي.

نتحدث عن بلاد اجتماع بدوي (رعوي/زراعي/تجاري)، وعندما نالت استقلالها في العام 1951 صُنفت كأفقر دولة في العالم. وهي أول دولة تستقل بقرار من الأمم المتحدة ويشرف على صياغة دستورها ممثل عن الأمم المتحدة وهو من نسق عملية اختيار لجنة دستورية مكونة من 60 عضوا يمثلون الأقاليم الثلاث: طرابلس وبرقة وفزان. ثم باكتشاف النفط وتصديره بدءاً من العام 1961 تحولت إلى دولة نفطية بحكم ملكي دستوري ونظام سياسي برلماني واقتصاد ريعي قائم على مداخيل النفط الضئيلة كي يأكل رعاياها ويلبسوا ويسكنوا ويتعلموا ويتطببوا.

وخلال سنوات قليلة (أي حتى العام 1969) جرى تطور اجتماعي مضطرد. فبرزت طبقة ثرية أقلوية وتشكلت طبقة وسطى ناشئة داخل المدن الكبرى، محاطة بحزام بؤس هائل من أكواخ الصفيح بسبب الهجرات الداخلية الضخمة من أرياف البادية الفقيرة..

ثم كما هو معروف استولى على السلطة (أيلول/سبتمبر 1969) ملازم أول متماهياً في عبد الناصر ومشوش أيديولوجياً. بنى حكمه على عدم استقرار المجتمع وقولبته حسب تصوراته الاشتراكية الرعناء التي وصلت حد تأميم النشاط الاقتصاد الخاص بالكامل تقريباً إلا إذا استثنينا بعض الأعمال الفردية الخاصة: حلاق، قهوجي، خيّاط…

ثم تفجر ما اصطلح عليه “الربيع العربي” في تونس، حيث يمكن الحديث عن بنى اجتماعية طبقية واضحة المعالم: طبقة عاملة فقيرة واسعة وطبقة وسطى في ضائقة وطبقة عليا مترفة. وكذلك الأمر في مصر.

أما الحالة الليبية فقد كانت غريبة من الغرائب. فما يُسمى “ثورة” 17 فبراير 2011 في ليبيا هي أول “ثورة” تحدث في بلد نفطي مترف. لكن طاغيته تقصّد تفقير شعبه وتجهيله وإهمال تطوير البنية التحتية كمنهجية للسيطرة وبروحية انتقامية مرجعها نفسيته السايكوباتية. فهو في سياق “المهزلة التاريخية” كان خلطة متناقضة من عبد الناصر على ماو على ستالين على أتاتورك.. قبل أن يتنطح بالأنبياء ويماحك أشباه الآلهة.

فماذا عن الذين ثاروا عليه. في البداية كانوا في معظمهم شبيبة عشرينين. عفويين لا آيديولوجية لهم. طالبوا بالحرية ثم بسقوط النظام. تظاهروا سلميا عزلاً. فرد عليهم النظام بالقتل الدموي. فكان الناتو في السماء والثوار المسلحون على الأرض.

كان الإسلاميون هم القوى السياسية الوحيدة المنظمة. فاستغلوا الفرصة وشكلوا كتائبهم المسلحة بدعم عسكري ومالي من قطر. وكانوا الأغلبية المسيطرة على المجلس الانتقالي.

كان مشروعهم للهيمنة على السلطة مخططاً له قبل سقوط النظام بأشهر، ومدعوماً من رعاتهم الخارجيين مثل قطر وتركيا. ثم مصر في ظل حكم مرسي. ولا نغفل الدور الأمريكي في دعم حكم الإسلام السياسي (الإخوان تحديداً).

والشاهد أن التاريخ يعيد نفسه في ليبيا، فكما استقلت بقرار من الأمم المتحدة العام 1951 وكان الجيش البريطاني هو الذي دخل ليبيا وحررها من الاحتلال الفاشي الإيطالي العام 1944، وانضمت الولايات المتحدة إلى بريطانيا وأقاما لهما  قواعد عسكرية مقابل مساعدات مالية، وتم تسليح وتكوين جيش وشرطة، كذلك تدخلت الأمم المتحدة العام 2011 عبر الناتو  (في السماء)  للمساعدة الحربية الحاسمة في  القضاء على نظام الاستبداد الفاشي لكنهم لم يكونوا على الأرض للمساهمة الفعالة في بناء جيش موحد وسحب الأسلحة من الثوار.

ثوار الأمس تحولوا اليوم إلى مليشيات يقودها أمراء حرب مؤدلجين بالدين (اعتدالاً وتطرفاً) أو القبلية والجهوية أو حتى لصوص وقطاع طرق. وبدلاً من طاغية واحد معروف وله عنوان معروف في “باب العزيزية”، ظهر ألف طاغية وطاغية… وكما بدأنا عدنا.