بمجرد أن تدخل قرية “العور” التي فقدت 13 شابا على أيدي تنظيم الدولة الإسلامية المعروف بـ “داعش” تلحظ القافلة الطبية المتنقلة، وذاك الاسفلت الأسود اللامع الذي يفترش الطريق الرئيسي، والذي جرى تمهيده قبيل زيارة رئيس مجلس الوزراء المهندس ابراهيم محلب لتقديم واجب العزاء للأهالي يوم الاثنين الماضي 16 شباط/فبراير.

بمجرد أن تدخل قرية “العور” التي فقدت 13 شابا على أيدي تنظيم الدولة الإسلامية المعروف بـ “داعش” تلحظ القافلة الطبية المتنقلة، وذاك الاسفلت الأسود اللامع الذي يفترش الطريق الرئيسي، والذي جرى تمهيده قبيل زيارة رئيس مجلس الوزراء المهندس ابراهيم محلب لتقديم واجب العزاء للأهالي يوم الاثنين الماضي 16 شباط/فبراير.

العمل يجري على قدم وساق في العور الواقعة شمال محافظة المنيا المصرية. سرادق كبير في كنيسة السيدة العذراء بالقرية يضم أهالي الضحايا والمعزين القادمين من خارج القرية التي يبلغ عدد سكانها أكثر من خمسة آلاف نسمة نصفهم من الأقباط ويعملون جميعًا بالزراعة والحرف المختلفة.

تضم القرية مسجدين وكنيسة، ومن جولة قصيرة يتضح أنها تفتقر للخدمات الأساسية، فالطرق متهالكة، والأهالي يشكون من نقص مياه الشرب وعدم وجود صرف صحي، إضافة إلى تهالك الوحدة الصحية وعدم انتظام الكهرباء ومياه الشرب، لذا ليس من المستغرب أن يهاجر شبابها بحثاً عن لقمة الخبز عند الجارة الغربية ليبيا.

لا تحذرني من السفر وأبواب الرزق مغلقة

“نعيش في أسرة مكونة من 8 أفراد في منزل واحد. ووالدي فلاح وليست لديه ملكية زراعية، ولا نجد فرص العمل وليس لدينا سوى ليبيا”. هكذا بدأ بباوي يوسف حديثه. بباوي يعمل مدرسا للدراسات الاجتماعية في مدرستين اعداديتين خارج قريته، وهو شقيق تواضروس يوسف وخال هاني عبد المسيح الذين ظهرا في شريط فيديو مسجل بثه تنظيم داعش وهو يحز رؤوس ضحاياه ويخلط دماءهم بمياه المتوسط.

يقول بباوي إن شقيقه تواضروس البالغ من العمر 42 عاما متزوج ولديه 3 اطفال في مراحل تعليمية مختلفة وزوجته ربة منزل ويعيش في غرفة واحدة بمنزل والده، وكان يعمل بالفلاحة لأنه غير متعلم، ومع اضطراب الوضع ووقف الحال بعد ثورة 25 يناير اُضطر للسفر إلى ليبيا منذ عام ونصف عقب اجازة قضى قبلها عام آخر في منطقة قريبة من سرت الليبية.

ويضيف بباوي “أما ابن شقيقتي هاني فحاصل على دبلوم زراعة ولم يحصل على فرصة عمل ويعول أسرة من 4 اطفال بجانب زوجته ضمن 6 اخوة في منزل واحد أيضا وملكيتهم الزراعية لا تزيد عن 6 قيراط”.

يبتسم بباوي بحذر ليقول “صدمنا عند مشاهدة الفيديو، ولكن متعزيين لان اخواتنا استشهدوا على ايمانهم وهم يقولوا يسوع وقديسينا لاخر لحظة قالوا يارب. وهم بركة لينا. والشي الذي كان سيصدمنا حقا اذا ما تراجعوا عن ايمانهم وكان سيشعرنا بانهم ماتوا حقا ولكن الان هم في السماء. أنا فخور بأخي وأبن شقيقتي وكننا سنحسد من لهم شهداء في الحادث لو لم يكونوا منا”.

يطالب بباوي بتغيير اسم القرية ليصبح “قرية الشهداء” بدلا من قرية العور كما يطال الحكومة المصرية بالاهتمام بالشباب وفتح مشروعات صناعية وزراعية وتجارية كبرى امامهم لتوفير فرص العمل بعيدا عن الوظائف الحكومية بحيث تستوعب البطالة، لأن التحذير من السفر لن يجدي طالما أبواب الرزق مغلقة. ويقول “مطلبي العام من الدولة هو الاهتمام بصعيد مصر من حيث البنية الاساسية من كهرباء ومياه شرب وصرف صحي فمياه الشرب لا تاتي لنا الا 3 ساعات يوميا من الواحدة صباحا وحتى الرابعه فجرا”.

ويتهم بباوي وزارة الخارجية المصرية التي أسندت لها الدولة ملف الأقباط المختطفين على يد داعش بالفشل الذريع معللا ذلك بسوء معاملتهم للأهالي وعدم اهتمامهم بمتابعة الملف. ويُحمل السفير بدر عبد العاطي مسؤولية سوء إدارة الازمة ويقول “لم يكن لدى مسؤولي وزارة الخارجية سوى كلمة “جار الاتصال”، من دون أن يقولوا لنا مع من، ولا توجد لديهم اية بيانات او ايضاحات بشأن تطميننا”.

ويضيف “لم تبد الدولة اهتماما بنا إلا بعد رؤية الصور يوم الخميس لأبنائنا وهم مرتدين بدلة الاعدام، وسافرنا بعدها لنلتقي (رئيس الوزراء) محلب بنية الاعتصام، ولكن فوجئنا بأن الدولة لبت جميع مطالبنا التي تلخصت في تأمين مسكن لنا لمتابعة الأزمة بالقاهرة وصرف معاشات استثنائية بمقدار 1200 جنية لاسرة كل مختطف حينها، وأن نعرف عنهم معلومات بشكل سريع”.

ويختم بباوي حديثه بالقول: “لا يسعني الآن إلا أن أتقدم بالشكر للدولة المصرية متمثلة في الجيش والرئيس على الضربات الجوية ضد داعش. وأملنا ألا يكون الدم المصري رخيص”.

لأننا غلابة لا نستطيع السفر إلى أوروبا

“عايزين نعيش في أمان ومش عايزين نسافر” يقول نسيم فايز عزيز البالغ من العمر 25عاما والحاصل على دبلوم الصنايع عام 2007 بلا فرصة عمل وشقيق مينا فايز (23 عام) أحد الضحايا الذين ظهروا في شريط داعش.

ويضيف “مينا كان يريد مساعدة والده، فنحن أسرة كبيرة العدد مكونة من 8 افراد ووالدي عامل “فراش” بمدرسة اعدادية، وشقيقي الاكبر روماني (27 سنة) لا يعمل أيضا. ومينا كان لديه تطلعات وأحلام كالشباب، عايز يسافر ويتجوز ويساعدنا. كان أصغر مني سنا لكن كان أكبر تفكيرا ورشدا. وزملائه كلهم سافروا إلى ليبيا لأنها الدولة الوحيدة المتاحة، فنحن فقراء وغلابة لا نستطيع السفر إلى الدول الاوروبية ولسنا مستعدين للمخاطرة، وكذا لأن ليبيا تستوعب العمالة البسيطة وغير المدربة. فبمجرد أن قضى مينا الخدمة العسكرية في الاسماعيلية أنهى اوراقه وسافر إلى ليبيا في شهر نيسان/أبريل 2014 وبعد 8 شهور أيضا تم اختطافه من سكنه في سرت”.

ويحكي نسيم بأن والدته مريضة وملازمة للفراش بعد سقوطها من الطابق الثالث قبيل اختطاف مينا، ولكن زاد عليها الالم عقب اختطافه، كما أن والده يعاني من نزيف داخلي في المخ بعد حادث الاختطاف.

يلخص نسيم مطالبه في عدالة اجتماعية للجميع بطريقته الخاصة فيقول “عايزين أبسط مطالب الحياه: يمشي الحال في مصر، نلاقي فرصة عمل، نستطيع الزواج، اقدر ابني بيت لاولادي، الاقي مياه شرب وكهرباء”. كما يطالب “بفكر مصري معتدل يحقق الأمان”.

يؤكد نسيم أنه لم يخرج من منزله منذ اختطاف أخيه تاركا قصة السفر وبحث الموضوع لأخيه الاكبر روماني الذي شعر من خلاله أن الخارجية تعلم بشيء ولا تود التصريح به منذ بداية الأزمة، معللا ذلك بان الموضوع كانت تحيطه هالة من الغموض. وقال “السفير بدر عبد العاطي (المتحدث باسم وزارة الخارجية المصرية) كان بيصبرنا بس”.

لو كان في استطاعة الدولة فعل شيء لفعلته

كاهن كنيسة السيدة العذراء بالعور القس مقار عيسى ساويرس أكد لـ “مراسلون” أن الأوضاع النفسية سيئة للغاية بعد مشاهدة الفيديو، “ومن ناحية أخرى هذه أسر معدمة من الأساس فقدت عائلها الوحيد الذي سافر للبحث عن لقمة عيش”.

ويتابع: “نطالب بتنفيذ وعد الرئيس السيسي ببناء كنيسة الشهداء بالقرية ولدى المطرانية الارض الكافية لذلك على أن يتم البناء على نفقة الدولة، وصرف التعويض المالي الذي لم يصرف حتى الان، والذي وعد به رئيس الوزراء ابراهيم محلب وقدره مائة الف جنيه لكل اسرة شهيد وتوفير معاش دائم لاسر الشهداء وليس 1200 جنيه فقط لانها لا تكفي اي اسرة”.

وطالب عيسى الدولة بالاهتمام بتولي نفقات التعليم والصحة لعائلات وأولاد الشهداء، والنظر إلى أشقائهم الذين لن يستطيعوا السفر بعد ذلك بتوفير فرص عمل حكومية دائمة لهم حتى يتسنى لهم البقاء مع أسرهم.

وحول المساعي التي بذلتها وزارة الخارجية لاطق سراح المختطفين يقول: “كان رد وزارة الخارجية الدائم لنا عند السؤال على مصير ابناؤنا: “نجري مفاوضات مع الجانب الليبي”، ولم تكن هناك معلومات جديدة”. ويلفت القس مقار الى ان المفاوضات كانت مع القبائل الليبية والجيش الليبي وليست مع المختطفين مؤكدا أنه مؤمن بأن الدولة لو كان في استطاعتها فعل شيء لفعلته “لأن الوصول للجماعات الارهابية صعب”.

ويختم كاهن الكنيسة حديثه بالقول: “أنا أفتخر باولادي الشهداء لأنهم رفعوا رأس المسيحية عالية وخاصة مسيحي قرية العور”.