أظهرت نتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة بوناً شاسعاً بين خيارات الناخبين في مدن الجنوب والشمال، وقسمت البلاد على مواقع التواصل الاجتماعي إلى شمال “علماني” وجنوب “إسلامي”.

فما أن أُعلن عن النتائج الأولية للانتخابات التي أجريت في 26 تشرين أول/ أكتوبر الماضي حتى انهال سيل من التحليلات والتعليقات تربط بين قاطني الجنوب والإرهاب وبين الشماليين ونظام بن علي. ودفعت الأرقام الانتخابية الجديدة إلى حشر مئات الآلاف من متساكني الجنوب والشمال في نسيج التحليلات السياسية والصراعات الجهوية.

أظهرت نتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة بوناً شاسعاً بين خيارات الناخبين في مدن الجنوب والشمال، وقسمت البلاد على مواقع التواصل الاجتماعي إلى شمال “علماني” وجنوب “إسلامي”.

فما أن أُعلن عن النتائج الأولية للانتخابات التي أجريت في 26 تشرين أول/ أكتوبر الماضي حتى انهال سيل من التحليلات والتعليقات تربط بين قاطني الجنوب والإرهاب وبين الشماليين ونظام بن علي. ودفعت الأرقام الانتخابية الجديدة إلى حشر مئات الآلاف من متساكني الجنوب والشمال في نسيج التحليلات السياسية والصراعات الجهوية.

فسارع عدد من الصفحات الفيسبوكية الموالية لحزب نداء تونس إلى توجيه اللوم أحياناً والشتائم في أحيان أخرى لأبناء مدن الجنوب الشرقي، وبالمثل كان الرد من الجهة المقابلة التي وصفت بعض التعليقات فيها أبناء الشمال “بأزلام النظام السابق”.

من بين الصفحات التي أنشئت بعد الإعلان غير الرسمي عن نتائج الانتخابات صفحة “أحرار تونس ضد الرجعية”، وقد ورد فيها أن الجنوب التونسي “مازال خارج منظومة التطور العلمي ولم تصله الحضارة والحداثة”، وهو ما يتطابق مع ما كتبه معجبو صفحة “من أجل إلحاق الجنوب بليبيا” الذين وصفوا مواطني تلك المدن “بالرجعيين والإرهابيين” و”المرضى النفسانيين” على خلفية اختيارهم لحركة النهضة. ورأى بعض المعلقين في الصفحات الفيسبوكية أن “المهربين” والناشطين في مجال التجارة الموازية، صوتوا لحركة النهضة، رغبة منهم في ضمان تواصل حالة الفوضى في الجنوب وتحقيق ارباح طائلة على حساب مصلحة الاقتصاد والأمن التونسي.

وقد أغلقت الصحفتان لاحقاً بقرار من المشرفين نظراً للحساسيات الجهوية التي تولّدت عنهما.

وفي المقابل فتحت صفحات حركة النهضة منابرها لأهالي الجنوب من أجل الرد على الاتهامات المذكورة وتوضيح اسباب تصويتهم لفائدة الحركة، فيما اعتمد متساكنو الجنوب على صفحتي “أحرار الحامة” و”أحفاد الدغباجي” في الدفاع عن خيارهم التصويتي، والصفحتان يديرهما شباب من ولاية قابس كانوا قد أعلنوا سابقا رفضهم القبول بنواب حركة نداء تونس ممثلين لهم في البرلمان الجديد، مؤكدين أن “حكم البلاد من طرف قادة مدن الشمال لمدة أكثر من نصف قرن أسفر عن نظام ديكتاتوري واستثنى الجنوب من خيرات البلاد”.

السياسة في مكان آخر

وكان أبناء ولاية قابس مسقط رأس زعيم الحركة راشد الغنوشي قد صوتوا في معظمهم لحركة النهضة التي حصدت 3 مقاعد من جملة 5 مخصصة للولاية في البرلمان. وبالمثل كان الحال في مدينة تطاوين (جنوب) التي تحتل المرتبة الأولى في معدلات البطالة على مستوى البلاد، إذ لم يمنع مقتل القيادي بحركة نداء تونس لطفي نقض سنة 2012 في مدينة تطاوين حركة النهضة من الحصول على 66 بالمائة من جملة أصوات الناخبين.

بيد أن حفلات الشتائم المتبادلة بين مؤيدي الطرفين في الفضاء الافتراضي لا تترجم حقيقة مواقف الأطراف المشاركة في العملية الانتخابية.

فالفوز الجنوبي الذي حققته النهضة ساعد الحركة على تذليل فارق النسبة العامة واحتلال المرتبة الثانية في ترتيب الأحزاب الفائزة في الانتخابات التشريعية، ومن شأنه بحسب ساسة ومحللين أن يساعدها على التفاوض المريح مع نداء تونس للمشاركة في تركيبة الحكومة المقبلة.

زياد الأخضر، الأمين العام لحزب الوطنيين الديمقراطيين الموحد (أحد مكونات الجبهة الشعبية) يشدد على ضرورة القبول بفوز حركة النهضة في بعض مناطق البلاد التونسية، واحترام اختيارات جزء من الشعب اقتنع ببرنامجها الانتخابي.

وينفى الأخضر أن يكون أهالي الجنوب من حاملي الفكر المتطرف والحاضنين للإرهاب بمجرد تصويتهم  لتنظيم سياسي تختلف معه “القوى التقدمية” على مستوى البرامج والأفكار.

وفي المقابل دعت بعض الشخصيات منها وزيرة السياحة آمال كربول عن طريق صفحتها على الفايسبوك إلى الحد من تبادل التهم ودعت إلى “اعتزاز الجميع بالانتماء للدولة التونسية دون تفرقة أو تقسيم جهوي”.

وحول هذه النقطة يشير الصحفي التونسي توفيق العياشي إلى أن “البعض يريد تحويل الجنوب التونسي إلى ما يشبه سيناء مصر أو بشبه جزيرة القرم الأوكرانية، رغم يقينه بأن تلك الربوع لا يمكن أن تحتضن من يبيت الشر لوطنه أو ينخرط في مشروع تجزئة على أساس الانتماء الجهوي”.

الانقسام “الافتراضي” الحاصل بسبب نتائج التصويت بات يشكل بحسب العياشي منعرجا خطيرا يهدد الاستقرار الاجتماعي والوحدة الوطنية، ويدفع نحو الفتنة، مما دفع بالإعلاميين إلى تنظيم لقاءات حوارية للوقوف على أسباب هذه الظاهرة والحد من “نزيف الانفلات” على مواقع التواصل الاجتماعي.

عين الابتزاز

من جهته، يعتقد المهدي المبروك، وهو أستاذ جامعي مختص بعلم الاجتماع، أن “هناك من ينفخ في نار الفتنة  طمعا في أن يحرض أهالي الجنوب على تبرئة أنفسهم من سلسلة التهم التي توجه اليهم وكأن عليهم أن يثبتوا عكس ذلك. وهذا عين الابتزاز”.

ويوضح أن خيارات التصويت”ينبغي إرجاعها إلى عوامل اقتصادية اجتماعية لا علاقة للتضاريس فيها، وتأويلها خلاف ذلك هو مدخل لإحداث شرخ في البنية الاجتماعية للبلاد ناهيك عن افتقاده الأسس العلمية”.

ويؤكد مبروك أن ثنائيات من نوع ” شمال/جنوب” أو  “صحراء/بحر” لا تفسر مطلقا السلوك الانتخابي للمواطنين “فالأمر لو كان على هذه الشاكلة لكانت النتيجة معروفة مسبقا وحتمية”، لكن المسألة تعود في اعتقاده إلى البنى الاجتماعية  وسيرورات الإدماج السياسي والإقتصادي، وليس إلى التقسيم الجغرافي على أسس عقائدية.

وهنا يرى الباحث الاجتماعي أن الجنوب من خلال تصويته لحركة النهضة كان مدفوعاً بالخشية من عودة النظام القديم الذي وضعه على هامش الحياة الاقتصادية، مشيرا إلى أن تمسك معظم أهالي مدن الجنوب الشرقي بحركة النهضة “يعود إلى أمل لديهم في التغيير الذي لم يحدث منذ الاستقلال على مستوى نمط العلاقة بين الجنوب والدولة المركزية التي عطلت مسارات الإدماج السياسي والاقتصادي”.

وكانت حركة النهضة منذ توليها الحكم قبل أربع سنوات قد جلبت معها نخبة سياسية ينتمي عدد منها إلى الولايات الجنوبية كالرئيس المنصف المرزوقي، ورئيس الحكومة السابق علي العريض، وشخصيات أخرى،  ولو أن ذلك لم ينعكس على تحسين واقع المدن الجنوبية، بحسب المبروك.

تصريحات الباحث الاجتماعي تتقاطع مع ما يقوله الصحفي توفيق العياشي، الذي يرى أن تأويل الانتخابات بهذا الشكل هو “ترجمة لتفكير بدائي يرى في متساكني الجنوب مجموعات بافلوفية (نسبة الى تجربة بافلوف) تنقاد بسهولة وتنصاع لأي منبه مهما كان مصدره، وأنها مجرد كائنات فوضوية مارقة عن الدولة ولا تؤمن بقانون المواطنة والانتماء للوطن”.

وفي حين يقر العياشي بهاجس عودة النظام القديم الذي يسيطر على أذهان كثر من أهالي الجنوب في مقابل ترحيب واسع من أبناء بقية المدن بتسجيل خسارة حركة النهضة في الانتخابات، إلا أنه يؤكد على أن حسابات السياسة ستكون في مكان آخر بعيد عن هذا السجال.

فالحكومة بحسب العياشي “لا تستطيع الاستغناء عن الطرفين الأساسيين (النداء والنهضة) لضمان التوازنات والتأقلم مع تحولات الخارطة السياسية القادمة”.