يوم 5 حريزان /يونيو الماضي لم يكن يوما عاديا في وزارة الداخلية، فقد تداولت عدة وسائل إعلامية محلية خبرا مسرّبا من داخل أروقة الوزارة على غاية من الخطورة.

يوم 5 حريزان /يونيو الماضي لم يكن يوما عاديا في وزارة الداخلية، فقد تداولت عدة وسائل إعلامية محلية خبرا مسرّبا من داخل أروقة الوزارة على غاية من الخطورة.

الخبر يتعلّق باجتماع أمني طارئ حضره وزير الداخلية لطفي بن جدّو والوزير المكلّف بالملف الأمني رضا صفر. اجتماع أحيط بقدر كبير من السرية والكتمان. لكن وبحسب تسريبات مؤكّدة كان هدفه وضع حدّ نهائي للمزايدات النقابية -الأمنية التي أضّرت بالعمل الأمني الميداني وأساءت للقيادات الأمنية في وقت يفترض أن تتكاتف فيه كل الجهود للتصدّي لآفة الإرهاب التي بدأت تنخر المجتمع التونسي وتتغلغل فيه إلى درجة الاعتداء على منزل وزير الداخلية نفسه.

في هذا الاجتماع توجهت أصابع الاتهام للنقابات الأمنية “التي باتت تحشر أنفها حتى في السياسات العامة للوزارة وتفشي معلومات أمنية على غاية من خطورة والأهمية” بحسب التسريبات.

ووقع الاتفاق على معاقبة كل نقابي- أمني يخرق الأسرارالأمنية أو يخالف واجب التحفظ على المعلومات من خلال التحدّث أمام الرأي العام في المسائل النقابية، بتعريضه للتتبعات الإدارية وحتى القضائية.

وتتكتّم وزارة الداخلية عن الإدلاء بأي توضيحات بشأن هذا الإجراء، في حين تحاول النقابات الأمنية تجاهله وإنكاره مع تحذير الوزارة من أي خطوة مستقبلية لقمع العمل النقابي الأمني.

اعتذرنا للشعب فماذا تريدون بعد؟

في تصريح لموقع “مراسلون” أكّد لسعد اليحمدي عضو النقابة الوطنية لقوات الأمن الداخلي أن هناك “مخطّط” من القيادات الأمنية العليا بوزارة الداخلية لقمع العمل النقابي الأمني واجتثاثه “لأن النقابات كشفت الملفات المريبة بالوزارة وعرّت حجم الاختراق السياسي والحزبي للأجهزة الأمنية”.

ويضيف اليحمدي بتحسّر “لقد ضحيّنا كثيرا من أجل تحقيق المكسب النقابي في السلك الأمني، فبعد الثورة بأسابيع قليلة وتحديدا أواخر شهر شباط/ فبراير، نزلنا الى شارع الحبيب بورقيبة وكنّا مجموعة صغيرة من الأمنيين، تظاهرنا أمام وزارة الداخلية وقدّمنا اعتذاراتنا للشعب التونسي عن كل سنوات الدكتاتورية والاستبداد. اعتذرنا لأننا كنّا سوطا في يد الطاغية”.

“وحتى لا نستمر في لعب دور سوط الجلاد مع كل نظام سياسي طالبنا بهيكل نقابي يحمي حقوقنا ويحصّننا من طغيان السلطة”، يتابع اليحمدي، “طالبنا بسنّ قوانين لنصبح أمنا جمهوريا يخدم قيم الجمهورية والمواطنة وليس أمنا في خدمة السلطان على حساب الرعية”.

بعد الثورة بأشهر قليلة وتحديدا بتاريخ 25 أيار/مايو 2011 أصدر الباجي قايد السبسي الوزير الأوّل آنذاك مرسوما حكوميا يسمح بإنشاء النقابات الأمنية وينصّ في فصله الحادي عشر على أنه يحق لأعوان قوات الأمن الداخلي ممارسة العمل النقابي. لكن الفصل  نفسه يحظر على عناصر الأمن في ممارستهم للعمل النّقابي الإضراب عن العمل أو تعطيل سيره بأيّ  وجه.

اليحمدي واثق بأن لا أحد يستطيع “إرجاع الأمنيين إلى بيت الطاعة السياسي”. مع أنه يعترف بأن هناك أخطاء، لكن هذه الأخطاء حسب قوله تقترفها “نقابات عشوائية تعمل بطريفة عشوائية وتدّعي أنها نقابات أمنية وهي لا تملك في الحقيقة حتى تأشيرة العمل النقابي”.

ويتهم اليحمدي حكومة الترويكا وعلي العريض عندما كان وزيرا للداخلية وكذلك عندما أصبح رئيسا للحكومة بأنهما أرادا تشويه العمل النقابي الأمني، ولذلك صمتت السلطة عن هذه النقابات “الدخيلة” وفسحت لها المجال حتى تحوّلت إلى ما يشبه “الطاعون” الذي اكتسح الجسد الأمني، بحسب وصفه.

وتعتبر نقابة قوات الأمن الداخلي أوّل نقابة أمنية تحصل على تأشيرة العمل النقابي. وهي تضم، كما أكّد لنا ذلك لسعد اليحمدي، 30 ألف منخرط بين شرطة وحرس وحرس سجون وحماية مدنية، من جملة حوالي 80 ألف عون أمن تونسي.

تهم خطيرة تلاحق النقابات

تشنّج العلاقة بين القيادات الأمنية وقيادات النقابية الأمنية برز إلى السطح بعد الهجمة الإرهابية على منزل وزير الداخلية لطفي بن جدّو يوم 27 أيار/مايو الماضي، والتي أسفرت عن مقتل أربعة أمنيين. فقد عمدت قيادات نقابية أمنية كعادتها إلى انتقاد أداء الوزارة واتهامها بأنها مقصّرة في حماية أعوان الأمن.

هذه القيادات النقابية الأمنية احتكرت المنابر الإعلامية منذ فترة، لتتحدّث في أدق تفاصيل العمل الأمني دون تحفّظ وبعيدا عن المطالب المهنية التي هي من مهامها الطبيعية، لتصبح فعليا بمثابة سلطة أمنية موازية، بحسب رأي منتقديها.

الكاتبة الصحفية والحقوقية نزيهة رجيبة المعروفة في الوسط الإعلامي والسياسي بلقب “أم زياد”، اتهمت النقابات الأمنية بأنها “تريد أن تؤسس دولة داخل الدولة”. وأكدت أن هذه النقابات تحولت إلى “عصابات” لأن أعضاءها لم يطالبوا بتحسين وضعياتهم المهنية ولم يؤسسوا إلى أمن جمهوري بقدر ما طغى عليهم التلون الحزبي والخوض في الصراع السياسي.

واتهم المناضل اليساري والكاتب المشهير جلبار النقّاش هذه النقابات بأنها جزء من الثورة المضادة ومن النظام القديم الذي يريد استعادة الدولة من جديد.

تهم خطيرة وجّهت للنقابات الأمنية من بينها خدمتها لأجندات حزبية بعينها، وامتهانها للسياسة من خلف الستار، كما يتهمها البعض بأنها “تعمل بالمناولة لصالح رجال أعمال فاسدين”.

نقابات تطرد الرؤساء

المنعرج الخطير في العمل النقابي الأمني حصل يوم 18 تشرين أول/أكتوبر 2013 حينما عمدت قيادات نقابية أمنية إلى رفع شعار “ديقاج” أو “ارحل” في وجه الرّؤساء الثلاثة بثكنة العوينة أثناء تأبين عوني الحرس الوطني اللذين استشهدا في العملية الإرهابية بمدينة قبلاط (محافظة باجة بالشمال الغربي) .

وقد اعتبر رئيس الحكومة آنذاك علي العريض هذا التصرّف موقفا سياسيا. وأصدرت وزارة الداخلية تبعا لذلك بيانا ذكّرت فيه بأنّ “العمل النقابي المسؤول هو الذي يحترم قواعد الانضباط الأمني ويدافع عن الحقوق الماديّة والاجتماعية لكافة الأعوان شرط أن لا يتحوّل إلى وسيلة لإرباك عمل الحكومة وتهديدا لوحدة وانضباط المؤسسة الأمنيّة”.  

لكن المواجهة بين النقابيين والحكومة تواصلت على مدى الشهور اللاحقة والى حد اليوم. من ذلك قيام نقابة أعوان الأمن بإقليم تونس بتهديد رئيس الحكومة الحالي مهدي جمعة ووزير الدّاخلّية لطفي بن جدّو باتّخاذ إجراءات تصعيدّية في حال عدم قيامهما بالتحقيق في تهجّم عماد دغيج القيادي برابطات حماية الثورة على أعوان الأمن.

يوم 30 أيار/مايو الماضي أدلت عضو نقابة قوات الأمن الداخلي ألفة العياري بتصريح  لقناة “الجزيرة”  القطرية طالبت فيه بمنح المؤسسة الأمنية ” صلاحيات غير محدودة لمقاومة الإرهاب” دون التذرّع بحقوق الإنسان التي تصبح لا معنى لها” على حدّ قولها “إذا تعلّق الأمر بالدولة وبالأمن القومي”، الأمر الذي وصفه معلّقون بالخطير، وبأنه مسعى من أعوان الأمن لإعادة مناخ القمع والدكتاتورية.  

كما اتهم كاتب عام نقابة الأمن الجمهوري حبيب الراشدي مؤخّرا، حزب المؤتمر من أجل الجمهورية –حزب رئيس الجمهورية- بدعم جمعيات دينية “متطرفة” من خزينة الدولة.

في حين اتهم النقابي الأمني وليد زروق حركة النهضة وأكثر من مرة بأنها تقف وراء الاغتيالات السياسية في تونس بتواطؤ من وزارة الداخلية.

هذه التصريحات تعدها الحكومة خرقا واضحا للقانون المنظم للعمل النقابي لرجال الأمن. حيث يحجر الفصل 9 من القانون عدد 70 لسنة 1982 المؤرخ في 6 آب/أغسطس 1982 المتعلق بضبط القانون الأساسي العام لقوات الأمن الداخلي والمنقّح  في 25 أيار/مايو 2011، أي تصريحات إعلامية لممثّلي النقابات الأمنية خارج إطار المشاكل المهنية للقطاع المتعلقة بنشاطهم النقابي. ويتضاعف خطر هذه التصريحات لأنها تتعلّق بفئة من المواطنين تحتكر السلاح وتستعمله.

النقابات الأمنية تطالب بحقها في الانتخاب

لم تكتف النقابات الأمنية بنقد السياسيين وتقييم أدائهم بل هي تطالب بتمكين أعوان الأمن من حقهم في الانتخابات أسوة بالأمن الجزائري والمغربي.

هذا المطلب يتبناه لسعد اليحمدي وتدافع عنه النقابة الوطنية لقوات الأمن الداخلي مستندة إلى الفصل 21 من دستور تونس الجديد الذي جاء فيه “المواطنون والمواطنات متساوون في الحقوق والواجبات، وهم سواء أمام القانون من غير تميز”.

وفي المقابل لا تهتم النقابات ولا تكترث بالفصل 19 من الدستور الذي ينصّ على أنّ  “الأمن الوطني أمن جمهوري، قواته مكلفة بحفظ الأمن والنظام العام وحماية الأفراد والمؤسسات والممتلكات وإنفاذ القانون، في كنف احترام الحريات وفي إطار الحياد التام”.

وبعيدا عن الالتزام بالحياد المنصوص عليه في الدستور، تستمر النقابات الأمنية في مهاجمة الأحزاب والسياسيين والمطالبة بإقالة القيادات الأمنية، وتواصل الحديث بإسهاب عن الإرهاب والفساد الأمني وعمليات “البيع والشراء” داخل الأجهزة الأمنية.

مشهد معقد وصفه وليد زروق كاتب عام نقابة الأمن الجمهوري بقوله “المشهد النقابي الأمني ضرب في مقتل ليس من الإدارة والمسؤولين، ولكن من أشباه نقابيين خانوا عهد الشعب الذي حررهم من نظام كان يستعملهم كالعبيد”.