مازال جرح الماضي يؤلم السجين السياسي السابق عمر المرواني (70 عاما) الذي تعرض للتعذيب في السجون في فترة النظام السابق، ورغم أن مسار العدالة الانتقالية بدأ تفعيله على أرض الواضع عقب انطلاق أولى جلسات الاستماع إلى ضحايا الاستبداد التي ستمهد للمحاسبة ورد الاعتبار للضحايا فإن أمله في نجاح هذا المسار مازال ضئيلا على عكس البعض. 

مازال جرح الماضي يؤلم السجين السياسي السابق عمر المرواني (70 عاما) الذي تعرض للتعذيب في السجون في فترة النظام السابق، ورغم أن مسار العدالة الانتقالية بدأ تفعيله على أرض الواضع عقب انطلاق أولى جلسات الاستماع إلى ضحايا الاستبداد التي ستمهد للمحاسبة ورد الاعتبار للضحايا فإن أمله في نجاح هذا المسار مازال ضئيلا على عكس البعض. 

تقدم عمر مثل الآلاف من ضحايا الاستبداد الذين واجهوا السجون والمعتقلات بسبب انتماءاتهم ومواقفهم السياسية بملفه لهيئة الحقيقة والكرامة التي تشرف على تطبيق العدالة الانتقالية في تونس. لكن حضوره بأولى جلسات الاستماع المخصصة لضحايا الاستبداد والتي صدمت الرأي العام لفظاعة الانتهاكات التي تحدث عنها البعض لم تجعله راضيا عنها. 

يقول هذا الرجل الذي أنهكته السجون وجعلته عجوزا هرما إن لديه الكثير من الانتقادات لأولى جلسات الاستماع العلنية التي بدأت في تنظيمها قبل أسابيع هيئة الحقيقة والكرامة فهو يرى أنها غيبت نماذج مأساوية من الضحايا الذين مورس عليهم أبشع أنواع التعذيب طيلة العقود الماضية واكتفت بدعوة عدد محدود منهم، أمر يراه “غير منصف للضحايا”. 

يلوح على تقاسيم وجه عمر شيء من الحزن الممزوج بالألم وهو يتحدث عن تجربته السابقة كسجين إسلامي في فترة الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة وخلفه المخلوع زين العابدين بن علي فهو قد عزل من عمله لما كان موظفا حكوميا بسبب نشاطه السياسي مع حركة الاتجاه الإسلامي التي تحولت مطلع التسعينات إلى حركة النهضة التي تشارك في الحكم حاليا. 

تعذيب 

تعرض عمر المرواني مثل غيره من الإسلاميين واليساريين بسبب مواقفهم المناهضة للاستبداد وقمع الحريات والتعددية السياسية إلى الاعتقال والتعذيب بمراكز الإيقاف وداخل السجون في فترة التسعينات التي شهدت مواجهات عنيفة بين النظام القائم آنذاك وبين النشطاء الإسلاميين الذين كانت تتهمهم الحكومة بالتورط في أعمال عنف وصفت بأنها “إرهابية”. 

لم تغادر ذكريات السجن المريرة مخيلة عمر لحظة واحدة رغم مرور كل هذه السنوات فهو يتحدث عنها كأنها وليدة الأمس. يقول “مازالت ذاكرتي تحبس كل شيء. ما زلت أذكر سجن برج الرومي سيء الذكر. ما زلت أذكر التعذيب فيه بالعصي الغليظة التي كان يستعمها الأعوان لضربا في مناطق حساسة حتى يغمى علينا. إنه لم يكن سجين بل معتقل تعذيب”. 

يضيف هذا السجين السابق وهو يحبس دموع عينيه بأنه تعرض لكل أشكال التعذيب قائلا “لقد تم استخدام اشكال غير إنسانية في التعذيب مثل التعليق في وضع الدجاجة والضرب المبرح بأماكن مختلفة من الجسد ووضع الرأس في أوعية تحوي قاذورات إلى جانب تهديدي باغتصاب زوجتي وبناتي إن لم أوقع بأن الإسلاميين كانوا يحضرون لانقلاب مسلح”. 

يقطع عمر المرواني حديثه ليسترجع بعضا من قوته المتلاشية ثم يستردك قائلا بصوت رجل مقهور “لن أنسى مطلقا وجه ذلك الضابط الذي كان يدوس على رأسي بحذائه وهو يسألني بصفاقة عن عمر ابنتي. عندما أخبرته بأنها طفلة لا يتجاوز الرابعة عشرة ابتسم ابتسامة سافلة وقال لي ابنتك صبية إذن ما رأيك أن نجلبها الآن لتراها ونحن نتسلى معها أمامك”. 

قصة عذاب هذا الرجل قد تتطلب مجلد لكنه يرى بأن سجنه الحقيقي كان خارج أسوار الزنزانات عندما أخضع لآلية مراقبة أطلق عليها النظام السابق المراقبة الإدارية التي تتمثل في إخضاع أي سجين سياسي بعد خروجه من السجن إلى وجوب التوجه إلى مركز الأمن القريب من مقر إقامته بصفة دورية حتى يتأكدوا بأنه لم يغادر منطقة إقامته إلى أي مكان آخر. 

والى جانب ذلك يتحدث عمر الذي يتابع اليوم علاجا نفسيا وعصبيا لدى أطباء مختصّين بمستشفى الرازي للأمراض العقلية والعصبية بتونس إنه تعرض كغيره من المساجين السابقين إلى مداهمات مستمرة بمنزله في أي وقت من اليوم ولاسيما في وقت الفجر بدعوى التفتيش والبحث عن محظورات وهو ما تسبب له ولأفراد عائلته في أضرار نفسية، كما يقول. 

يمضي عمر حياته اليومية حاليا بين عائلته وأصدقائه وبين تلقي العلاج بالمستشفى وأداء صلواته بالمسجد وهو يتابع عن كثب مستجدات مسار العدالة الانتقالية عبر وسائل الإعلام أو عبر اتصاله بهيئة الحقيقة والكرامة التي يقول إنها مطالبة بالكشف عن الحقيقة كاملة من خلال الاستماع للمتهمين بارتكاب جرائم وتجاوزات في حق مساجين الرأي السابقين.   

“أنا أرفض المصالحة قبل أن تكشف كل الحقيقة ويقف الجلادون أمام الشعب التونسي ليعترفوا بكل الجرائم التي ارتكبوها في حقه وتتم محاسبتهم عما فعلوا وقتها يمكن أن نتحدّث عن الصفح والمصالحة أم اليوم فلن أصفح ولن أقبل اعتذار دون اعتراف بالجرائم ودون محاسبة حقيقية”، يقول عمر المرواني مستشيطا بالغضب.   

أداء ناجح

عن دور هيئة الحقيقة والكرامة في الكشف عن الانتهاكات يقول عضوها عادل المعيزي لمراسلون إن مسار العدالة الانتقالية لم يبدأ مع جلسات الاستماع لضحايا الانتهاكات “بل هو مسار متكامل من الآليات والوسائل لفهم ومعالجة ماضي انتهاكات حقوق الإنسان بكشف حقيقتها ومساءلة ومحاسبة المسؤولين عنها وجبر ضرر الضحايا وردّ الاعتبار لهم”.   

ويرى هذا المصدر أن هناك محاولات للتشويش على الهيئة وضرب مسار العدالة الانتقالية من داخل وخارج الهيئة، موضحا بأن الهيئة تعمل على تنظيم المزيد من جلسات الاستماع للضحايا إلى جانب جلسات استماع للمتهمين بارتكاب التجاوزات للكشف عن الحقيقة ووضع برنامج شامل لجبر أضرار الضحايا بعد انتهاء نشاط الهيئة بعد حوالي سنة ونصف. 

وتواجه هيئة الحقيقة والكرامة منذ مباشرتها لمهامها انتقادات حول أداءها وانقسام للمواقف حول من يؤيدها ويعتبرها نجحت في أداء المهام الموكول إليها وبين من يناهض ما تقوم به ويعتبر أنها فشلت في الإشراف على مسار العدالة الانتقالية وأنها لن تحقق المصالحة بقدر ما ستزيد من منسوب التفرقة والفتنة في المجتمع التونسي عقب الثورة الشعبية. 

مستقبل مشرق

ويرى منذر الشارني كاتب عام المنظمة التونسية لمناهضة التعذيب التي تعد من أقدم المنظمات التونسية التي نددت بالتعذيب وفضحت الانتهاكات السابقة “أن مسار العدالة الانتقالية في تونس يواجه الكثير من الصعوبات رغم المجهود الذي تبذله هيئة الحقيقة والكرامة في تجميع الملفات وفي الاستماع للضحايا وإحالة بعض الملفات الدوائر القضائية المختصة”. 

وفي تعليقه على أولى جلسات الاستماع العلانية لضحايا الانتهاكات السابقة يقول منذر الشارني لموقع مراسلون إن “هذه الجلسات أثارت جدلا بين مؤيدين وناقدين لأداء هيئة الحقيقة والكرامة وقد صدمت الرأي العام لأن أغلب التونسيين لم يتخيلوا أن النظام السابق كان بتلك البشاعة أو أنه يقوم بتلك الممارسات الشنيعة في حق خصومه السياسيين”. 

لكنه اعتبر أن انطلاق الاستماع لشهادات الضحايا تمثل بداية الطريق لتفعيل مسار العدالة الانتقالية رغم ما يشوبها من نقائص، مشيرا في ذات الوقت بأن ناجح هذا المسار يتطلب إرادة سياسية من قبل السلطة وتكاتفا من قبل منظمات المجتمع المدني كاشفا عن استيائه من غياب رئيس الدولة ورئيس الحكومة ورئيس البرلمان عن تلك الجلسات للضحايا.

ومع ذلك عبر منذر الشارني كاتب عام المنظمة التونسية لمناهضة التعذيب عن أمله في نجاح التجربة التونسية في تحقيق العدالة الانتقالية المنشودة التي ستتيح كما يقول بناء مستقبل مشرق للبلاد بعيدا عن “سياسة الانتقام وتنصيب المشانق”.