أثارت لجنة المالية والتخطيط والتنمية بالمجلس التأسيسي جدلا كبيرا في الأيام الأخيرة بقرارها المتمثل في إعادة العمل بقانون الأوقاف الإسلامية ومناقشته في اللجنة وتمريره للمصادقة عليها في الجلسة العامة.

قانون الأوقاف الإسلامية في تونس ألغي رسميا بتاريخ 18 جويلية/تموز 1957 ، بأمر من آخر بايات تونس (البايات هم ممثلو الدولة العثمانية في تونس من بداية القرن 18 إلى أواسط القرن 20)  وبموافقة الوزير الأكبر آنذاك الحبيب بورقيبة، وذلك قبل أسبوع من إعلان النظام الجمهوري وإلغاء حكم البايات في تونس.

أثارت لجنة المالية والتخطيط والتنمية بالمجلس التأسيسي جدلا كبيرا في الأيام الأخيرة بقرارها المتمثل في إعادة العمل بقانون الأوقاف الإسلامية ومناقشته في اللجنة وتمريره للمصادقة عليها في الجلسة العامة.

قانون الأوقاف الإسلامية في تونس ألغي رسميا بتاريخ 18 جويلية/تموز 1957 ، بأمر من آخر بايات تونس (البايات هم ممثلو الدولة العثمانية في تونس من بداية القرن 18 إلى أواسط القرن 20)  وبموافقة الوزير الأكبر آنذاك الحبيب بورقيبة، وذلك قبل أسبوع من إعلان النظام الجمهوري وإلغاء حكم البايات في تونس.

ويعني”الوقف” في الثقافة الاسلامية تبرع شخص أو مجموعة من الأشخاص ببعض ممتلكاتهم لفائدة المجموعة العامة للاستفادة منها في تمويل المشاريع الخيرية والتنموية والتعليم والصحة. وترتكز فلسفة الأوقاف على فتح باب التبرّعات بالأموال والأراضي والعقارات لتوظيفها في مشاريع خيرية لا يحق للدولة تغيير صبغتها.

بورقيبة وإلغاء نظام الأوقاف

مصطفى الفيلالي السياسي المخضرم كان حين إلغاء قانون الأوقاف، أحد وزراء بورقيبة. يقول لموقع مراسلون “حينها كنت وزيرا للفلاحة وكان أحمد المستيري وزيرا للعدل، وقد دافعت بشدة على ضرورة إلغاء العمل بقانون الأوقاف. هناك مبرّرات قوية لذلك تتمحور خاصّة حول تحرير العقارات من هذا النظام و إدماجها في الدورة الاقتصادية لبناء الاقتصاد الوطني”.

وحول جدوى إحياء هذا القانون اليوم، يقول الفيلالي “إن إعادة العمل بقانون الأوقاف لا يمكن أن يكون بهذه الطريقة الاعتباطية بل يجب دراسة المسألة من جميع الأوجه والاقتناع، ثمّ الإقناع بجدواها وجديتها”.

“خطة استعمارية”

من أهم المعالم التي تمثّل شاهد عيان تاريخي على قانون الأوقاف في تونس، مستشفى عزيزة عثمانة بالعاصمة، وكذلك جامع الزيتونة الذي كانت له أوقاف خاصّة وقع توظيفها للتعليم الديني.

حسين العبيدي إمام جامع الزيتونة اليوم يعتبر من أكثر المدافعين عن عودة العمل بنظام الأوقاف.

ويرى حسب ما أكد لمراسلون، أن “بورقيبة ألغى الأوقاف لضرب التعليم الزيتوني أحد المنارات الإسلامية ولتكريس العلمانية التي يؤمن بها”. فإلغاء هذا القانون حسب العبيدي، كان هدفه “قطع تمويل جامع الزيتونة ومصادرة أملاكه، وهي خطة أوكلها الاستعمار الفرنسي لبورقيبة للتخلّص من التعليم الزيتوني”.

ولهذه الأسباب يرى الشيخ حسين العبيدي أن مشروع قانون الأوقاف الذي أحالته الحكومة للمجلس التأسيسي للنظر فيه، “قادر على دعم جهود الدولة في التنمية وستكون له منافع اقتصادية كبيرة على كل التونسيين”.

لكن خلافا لما قاله العبيدي، أكد المؤرّخ والباحث عبد الجليل بوقرة لمراسلون أن “المشروع البورقيبي كان أساسا مشروعا تحديثيا على المستويين الاجتماعي والاقتصادي”.

ويفسر ذلك قائلا “بما أن منظومة الأحباس هي القاعدة الاقتصادية لطبقة رجال الدين، ومنها يستمدون نفوذهم الاجتماعي والاقتصادي والسياسي بسبب إشرافهم على الأحباس وتصرّفهم فيها، كان لزاما على بورقيبة إلغاء هذه المنظومة لتحرير وسائل الإنتاج وإضعاف طبقة رجال الدين وتحويل صلاحياتهم إلى الدولة كالإشراف على المساجد وصيانتها وعلى أضرحة الأولياء والتكفّل بمساعدة الفقراء وبالتعاون مع المجتمع المدني كاتحاد التضامن التونسي مثلا…”.

دولة دينية داخل الدولة المدنية

ومن الاحترازات التي أثارها أيضا مشروع الأوقاف اتهامه بأنه سيساهم في تغييب مفهوم المؤسسة العمومية وسيخلق مؤسسات عمومية موازية على غرار المدارس والمستشفيات التي من الممكن أن يقع توظيفها لخدمة مصالح سياسية ضيقة وخلق أنظمة تعليم وصحة موازية تختلف إدارتها عما هو معمول به صلب الدولة.

وفي هذا السياق يؤكّد عبد الجليل بوقرة “أن منظومة الأحباس لا علاقة لها بالشريعة (القرآن والسنّة) عكس ما يقع الترويج له، بل هي نظام اجتماعي وإفراز لظرفية تاريخية محدّدة.

ويعتبر أن وظيفة قاضي الأوقاف مثلا التي يقرّها هذا المشروع  ستكون نواة لمؤسسة قضائية موازية وبداية تقسيم المؤسسة القضائية.

كما يمثل  إنشاء خطة قاضي الأوقاف حسب بوقرة وعدد كبير من الملاحظين في تونس، نواة للمحاكم الشرعية في اتجاه تطبيق الشريعة “وهو الهدف الأساسي للإخوان الذي لا محيد عنه، ألم يقل زعماؤهم في عديد المناسبات نحن لا نحرّم ما حلّله الله ولا نحلّل ما حرّمه”.

ويختم بوقرة بقوله “أن الأحباس أو الأوقاف، ستحكم على وسائل الإنتاج المحبّسة بالموت بسبب منع بيعها وشرائها والتفويت فيها”.

ويوضح أن من انعكاسات هذا القانون وتداعياته الكثيرة هو  تجميد بعض وسائل الإنتاج بإخراجها من الدورة الاقتصادية وخلق طبقة اجتماعية طفيلية (نظّار الأوقاف أو المشرفين عليها) “تعتاش من الأوقاف وتروّج لإيديولوجيا غيبية ولتيار ديني يكتسح البلاد ويلتهم مدنية الدولة التهاما”.

ويرى بوقرة وغيره من مناهضي هذا المشروع أن قانون الأوقاف هو “من أخطر ما قامت به النهضة على مستوى ضرب الهويّة الحداثية للمجتمع التونسي، وسنعاني منه في المستقبل معاناة لا يمكن تقدير حجمها حاليا”.

ويضيف “لذلك سارع بورقيبة بإلغائه قبل سن الدستور وقبل تركيز المؤسسة التشريعية الأولى بعد الاستقلال لأنه يعلم أن مثل ذلك القرار يتطلّب الكثير من الجرأة والشجاعة السياسية”. كما سارعت النهضة إلى إحيائه قبل سن الدستور وقبل تركيز المؤسسة التشريعية الجديدة لأن راشد الغنوشي زعيم حركة النهضة، الذي يحمل عداء تاريخيا  لبورقيبة، يعلم أيضا أن ذلك الأمر يتطلب الكثير من الجرأة ومن الشجاعة السياسية “لأن الأمر يتعلّق بإحداث انقلاب جذري على مسار المجتمع وعلى مصيره” وفق قول بوقرة.

عودة الارستقراطية الدينية؟

ناجي جلول أستاذ الحضارة في الجامعة التونسية والباحث في تاريخ الجماعات الاسلامية، يؤكّد أن قانون الأوقاف هو الضربة القاصمة التي تريد حركة النهضة تسديدها للديمقراطية وللدولة المدنية.

“هذا القانون الذي يؤسّس لمؤسسات موازية كالمؤسسات التعليمية التي تقف وراءها جماعات دعوية وخيرية ستفرّخ لنا في المستقبل جيلا متشدّدا دينيا، فلا ننسى أن جماعة طالبان في أفغانستان قد تخرّجوا من مدارس قرآنية هي عبارة عن أوقاف دينية”.

كما يرى ناجي جلول أن إصرار حركة النهضة في المجلس التأسيسي على إحياء هذا القانون وتمريره في هذا الوقت بالذات هو لخلق قضاء مواز من خلال قاضي الأوقاف الذي سيكون البوابة المؤدية لتطبيق الشريعة فيما بعد.

ويعتقد جازما أنه “سيتم تمويل هذه الأوقاف بأموال خليجية أساسا وبالتالي ستتحوّل الأوقاف الى طريقة قانونية لتبييض أموال خليجية لا ندري مصدرها”.

ومن أخطر ما قاله ناجي جلول لمراسلون هو أن الأحباس الخاصّة ستحرم الأنثى من التمتّع بحقها في الميراث وهذا ضرب مباشر لقانون الأحوال الشخصية الموجود في تونس منذ 50 سنة بحسب قوله.

وبالنسبة للجدوى الاقتصادية للمشروع والتي يتحجّج بها مؤيدوه، فإن جلول يؤكّد أن ذلك غير صحيح لأنه غالبا من الصعب الاستفادة اقتصاديا من الأوقاف خاصة وأن تمويل هذه الأحباس هو مقتصر على البنوك الإسلامية فقط وبالتالي يصبح هذا القانون أداة لتجميد الملكية وتحويلها إلى ملكية إقطاعية، وهو ما يخلق فئة من المتمعشين منها، على حد قوله، والذين يكونون في العادة من رجال الدين.

وبالتالي سيخلق إصدار القانون نوعا من “الارستقراطية الدينية” التي ستكون في خدمة الإسلاميين سياسيا والذين يتبنون ويدافعون عن هذا القانون الذي قد يتناقض في جوهره وروحه حتى مع الدستور القادم، يقول جلول.