منذ أكثر من خمسين عاما عاشت الخالة السيدة أحداث معركة الجلاء ببنزرت شمالي تونس وكانت شاهدة على مغادرة آخر جندي فرنسي محتل لأرض بلادها.

[ibimage==8319==Small_Image==none==self==null]

خالتي السيدة بلباسها الأحمر

“أتذكّر جيّدا ذلك اليوم القائظ من شهر حزيران/ جويلية سنة 1961 عندما توسّلت لوالدي كي يأخذني معه الى جبهة القتال ببنزرت. كنت أريد أن أكون مع الشعب الذي هب من كل ربوع تونس لخوض معركة التحرير الأخيرة من قبضة الاستعمار”. 

منذ أكثر من خمسين عاما عاشت الخالة السيدة أحداث معركة الجلاء ببنزرت شمالي تونس وكانت شاهدة على مغادرة آخر جندي فرنسي محتل لأرض بلادها.

[ibimage==8319==Small_Image==none==self==null]

خالتي السيدة بلباسها الأحمر

“أتذكّر جيّدا ذلك اليوم القائظ من شهر حزيران/ جويلية سنة 1961 عندما توسّلت لوالدي كي يأخذني معه الى جبهة القتال ببنزرت. كنت أريد أن أكون مع الشعب الذي هب من كل ربوع تونس لخوض معركة التحرير الأخيرة من قبضة الاستعمار”. 

تقول انها انتقلت من بيتها في المدينة العتيقة بالعاصمة “مع حشد غفير من الوطنيين” وحضرت المواجهات التي دامت أربعة أيام تم على إثرها جلاء آخر جندي فرنسي من الأراضي التونسية. تقول لـ “مراسلون”، “ان  ذاكرتي ما زالت تحتفظ الى اليوم بصور مؤلمة وحزينة عن شهدائنا في المعركة”.

النبش في ذاكرة خالتي السيدة، تلك المرأة العجوز التي أصبحت نجمة المظاهرات والمسيرات في تونس بعد الثورة ليس بالأمر الهيّن، فسنواتها الـ 74 لم تطمس الحقائق والاحداث والتواريخ من ذهنها والحماس السياسي لديها ظل متوهجا ولم يخبو بفعل الشيخوخة.

تتذكّر بكل شغف الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة (اول رئيس لتونس)، وتقول بكل ثقة “هذه الأرض أصبحت عاقرا ولم تنجب زعماء بعد بورقيبة.” تحتفظ بصورة للزعيم الراحل في منزلها المتواضع والذي هو عبارة عن غرفة واحدة بأحد الأحياء القصديرية (الوكايل) المتاخمة للعاصمة. غرفة تفتقد لأدنى مقومات العيش الكريم فحتى المرافق الصحية بالمكان تتشارك فيه خالتي السيدة مع الجيران. لكنها لا تشتكي أبدا من الفاقة والعوز.

تقول عن وضعها الاجتماعي “لقد تزوجت في سن صغيرة وترمّلت كذلك مبكرا جدّا، لم يترك لي زوجي عندما توفي أموالا بل ترك في كفالتي ابنة هي اليوم قرة عيني، وأحفادي السبعة.

[ibimage==8313==Small_Image==none==self==null]

“لم أفكر أبدا في الزواج مرة ثانية”

تضيف لـ “مراسلون”، “لم أفكرّ أبدا في الزواج مرة ثانية كنت أحب زوجي المرحوم لذلك تحمّلت مسؤولية ابنتي واشتغلت عاملة تنطيف في البيوت والإدارات والمؤسسات”، قبل ان تؤكد “أنا سعيدة، وبالنسبة لي لم يعد في العمر كثيرا لأحزن لأجله ..أنا أتدبر شؤون حياتي اليومية وجيراني يساعدوني..وفي النهاية كله قضاء وقدر”.  

عندما تحدّثك الخالة السيدة عن الثورة تعلو ملامحها مسحة من الحزن رغم الابتسامة التي لا تفارق شفتيها. فالثورة بالنسبة اليها كان حلما تحقق بدماء الشهداء وآلام المستضعفين وأماني المسحوقين لكن “من قطف ثمار الحلم هم مرتزقة السياسة والمتاجرين بدماء الشهداء” كما تقول.

هي تعترف أنها لم تشارك في ثورة 14 كانون ثان/جانفي 2011 منذ البداية لأنها كانت مريضة لا تقوى على النهوض من السرير، لكن منذ اعتصام القصبة الأول بعد حوالي اسبوع من فرار الرئيس المخلوع بن علي، وهي تواظب على الحضور في كل الاعتصامات والمظاهرات الداعمة للحرية والديمقراطية وحقوق الفقراء والمستضعفين.

في اعتصام القصبة الثاني، وتحديدا في بداية شباط/فيفري 2011 سطع نجم خالتي السيدة، فلا تخرج مسيرة أو مظاهرة ولا يحدث اعتصام إلّا وتكون حاضرة فيه.

علم تونس يوشّح كتفيها وسبحتها بيدها، وصوتها يملأ المكان تارة بأدعية النصر والتوفيق لما فيه خير التونسيين وطورا بالشعارات السياسية المناهضة للحكومة وخاصّة حكومة الترويكا بقيادة حركة النهضة.

لكنها لم تنسى أبدا ذلك اليوم من اعتصام القصبة 2 عندما عمدت عناصر أمنية لتعنيفها بشدة وكادت أن تهلك تحت ضربات أقدامهم. تقول “يومها تأكّدت ان الظلم والجبروت الأمني ما زال يعشش في هذه البلاد وصممت العزم على أن ألتحق بالشباب والتحم معهم في الشوارع وهم يخوضون حربهم لاسترداد الثورة التي سلبت منهم ووقع السطو عليها من السياسيين الفاشلين.”

خالتي السيدة ورغم أنها امرأة متدينة وترتدي الحجاب الاّ أنها تناهض حركة النهضة ذات المرجعية الاسلامية وخاصّة زعيمها راشد الغنوشي الذي تعتبره “رأس الفتنة”، وتقول عنه “راشد الغنوشي إرهابي يريد أن تسيل أنهار الدماء في تونس، هو ناقم على الشعب التونسي وعلى أبناء وأحفاد بورقيبة، إنه لا يعرف معنى الوطن ولا يريد بنا خيرا..دم الشهداء في رقبته ولن نغفر له أبدا اغتيال البطل شكري بلعيد والرمز محمّد البراهمي”.

موقفها المعادي لحركة النهضة تبرّره بأنها تعرف جيّدا تاريخ الاسلاميين “الأسود” على حدّ تعبيرها وكيف مارسوا العنف ضدّ الشعب في بداية التسعينات سواء في أحداث ماء الفرق بباب سويقة أو في تفجيرات سوسة والمنستير وتقول “هل يعقل أن يكون رئيس الحكومة السابق –تقصد حمادي الجبالي- من الذين ثبت تورّطهم في تلك التفجيرات؟”

خالتي السيدة حسمت أمرها فيما يتعلّق بحركة النهضة بقولها “نعم أنا ضدّ النهضة..ضدهم جميعا لأنهم تجّار دين ولا يفقهون من قيم الاسلام شيئا وسأبقى أعارض حركة النهضة الى أخر رمق في حياتي.”

ولأجل هذا السبب تحديدا لا تتخلّف خالتي السيدة يوميا عن اعتصام الرحيل بباردو المطالب بحل المجلس التأسيسي ورحيل حكومة الترويكا.

كل ليلة تقطع خالتي السيدة مسافة ثمانية كيلومترات مشيا من مقرّ سكناها بالمدينة العتيقة وتحديدا منطقة الصباغين الى مكان الاعتصام أمام المجلس التأسيسي بساحة باردو.

هذه المسافة الطويلة على عجوز متقدمة في السن تضطر لها لأنها لا تملك اجرة سيارة التاكسي. وهي تصرّ على المشاركة في الاعتصام رغم مشقة التنقّل لأنها تعتقد أن لديها رسالة يجب ان توصلها “فالواجب يقتضي أن يتصدّى الجميع لهذه الحكومة التي تسيطر عليها حركة النهضة”.

وتصرّ خالتي السيدة على التظاهر السلمي وتجد الدعم من الكثير من السياسيين والشباب الذين يكنون لها كل الاحترام ويعاملوها كرمز شعبي. مواقفها الصريحة وصدقها جلب لها الاحترام. ففي كل حشد تحضر فيه تشيع مناخا من الأمل ومن الحماس في النفوس.

الشباب في ساحة باردو يقولون عنها أنها “سيدة تونس الأولى” وأنها “حارسة الثورة وعيونها التي لا تنام”.

أما العجوز السبعينية فتقول “بورقيبة الزعيم الخالد ارتكب هفوة عندما لم يسمح بالديمقراطية، وأنا أريد أن أكفّر عن ذنب الزعيم بطريقتي الخاصّة..لذلك سأكون دوما في الصفوف الأمامية لأي مظاهرة مطالبة بالديمقراطية وبالحرية والكرامة”، قبل أن تختم “ألم يمت الشهداء من اجل هذه المطالب؟ سأكمل ما تبقى لي من أيام لأحقق أمنيات الشهداء.”