بعد مرور سنتين على حادث اصطدام خافرة السواحل البحرية التونسية في المياه الإقليمية  بمركب صيد متوسط الحجم، استعمله عشرات الشبان للإبحار خلسة من ميناء جرجيس (جنوب شرق تونس) إلى السواحل الإيطالية، مازالت عائلات المفقودين تطالب السلطات المختصة بالكشف عن نتائج التحقيق في الموضوع.

فاجعة جرجيس

بعد مرور سنتين على حادث اصطدام خافرة السواحل البحرية التونسية في المياه الإقليمية  بمركب صيد متوسط الحجم، استعمله عشرات الشبان للإبحار خلسة من ميناء جرجيس (جنوب شرق تونس) إلى السواحل الإيطالية، مازالت عائلات المفقودين تطالب السلطات المختصة بالكشف عن نتائج التحقيق في الموضوع.

فاجعة جرجيس

شهادات الناجين البالغ عددهم 98 شابا، أجمعت على أن الخافرة التابعة للجيش التونسي (الحرية 302) تعمدت منذ سنتين اعتراض سير المركب دون استعمال أدوات التنبيه المعمول بها عالميا، مما أدى إلى انقسامه إلى نصفين وتسبب في مقتل 23 مهاجرا غير شرعي. ولم يتمكن أعوان الإنقاذ من انتشال أكثر من 5 جثث، وهو ما عرف بفاجعة جرجيس.

بحرقة تقول مامية بن يحيى (62 سنة)، “لم أتخيل أن يتحول حلمي بتغيير الحالة الاجتماعية للعائلة إلى فاجعة وصول جثمان ابني سفيان داخل أحد الصناديق المخصصة للموتى، قادمة من ايطاليا”.

وبصوت متقطع تسرد مامية لموقع “مراسلون” تفاصيل هجرة ابنها بطريقة غير شرعية، “لقد عانى من البطالة لمدة 4 سنوات، وأصبح منذ سنة 2009 يفكر في الهجرة إلى أوروبا”.

وتضيف ان ابنها كان يحلم بتحقيق ما حصده أبناء جيله من أرباح خاصة في إيطاليا وفرنسا. وبعد فشله في الحصول على تأشيرة العبور إلى الضفة الأخرى من المتوسط،  قرر خوض مغامرة ركوب قوارب الموت انطلاقا من شواطئ مدينة جرجيس، ودفع مبلغ 1200 دينار (حوالي 740 دولار امريكي) لفائدة منظمي هذا النوع من الرحلات غير القانونية.

عند الحديث عن هذا المبلغ، تعترف “مامية” أنها ساهمت في قتل ابنها بطريقة غير مباشرة. فقد باعت قطعة أرض لا تتجاوز مساحتها 300 متر مربع ورثتها عن والدها. وتقول عن ذلك “لقد كان أملي تعويض هذا المبلغ وإخراج العائلة من حالة الفقر، واختيار حياة أفضل لابني في إحدى الدول الأوروبية”.

الموت أو السجن

عزالدين بعبو (37سنة)، أصيل مدينة قابس (جنوب شرق العاصمة)، هو واحد من مئات التونسيين الذين لم يسعفهم الحظ للوصول أكثر من مرة الى شواطئ  إيطاليا. يقول لموقع “مراسلون” حاولت 5 مرات من مناطق مختلفة في تونس الإبحار خلسة إلى جزيرة لامبادوزا الإيطالية، لكن عدة عوامل حالت دون تحقيق هذا الحلم، منها التقلبات الجوية المفاجئة، وتفطن أعوان الحرس البحري لمخطط الرحلة”.

انتهت محاولات عزالدين بالسجن لمدة 6 أشهر داخل إحدى غرف السجن المدني بمدينة صفاقس ودفع غرامة مالية. ما جعله يتخلى عن فكرة الهجرة خشية مضاعفة العقوبة في حال ايقافه مرة أخرى وهو يتسلل خلسة إلى إيطاليا.

ويؤكد عزالدين، أن المبلغ الذي دفعه في المرات الخمس تجاوز 6 آلاف دينار (حوالي 3700 دولار أمريكي)، وأنه تمكن من ادخاره من تجارته في تهريب البضائع والمواد البترولية من ليبيا وبيعها في مدن الجنوب الشرقي التونسي.

ويتذكر أن الطبيب المختص في علم النفس داخل سجن صفاقس، أقنعه بفكرة البقاء في أرض الوطن، وتأسيس مشروع تجاري من خلال قرض بنكي من إحدى الجمعيات التنموية، بدلا عن الرحلة مجهولة العواقب.

تصريحات عزالدين بخصوص نصائح الطبيب تتطابق، مع رأي الشاب محمد الرقي (26سنة)، الذي لم تراوده فكرة اللجوء إلى إيطاليا عن طريق البحر، بحثا عن مورد رزق وظروف اجتماعية أفضل، رغم فشله في الحصول على عمل في تونس يتماشى مع شهادته الجامعية في اختصاص الإعلامية، التي تحصل عليها قبل 4 سنوات.

وحول مستقبله يقول الرقي لموقع “مراسلون”، “من لم ينجح على المستوى المهني والاجتماعي في بلده ووسط أهله، من المستحيل أن يتمكن من تغيير هذا الواقع وسط مواطنين لا يتحدثون لغته الأصلية ولا يتقاسمون معه ذات الثقافة والعادات والتقاليد”.

المجتمع المدني يتحرك

هذا الرأي يشاطره فيه عدد من الشبان الذين شاركوا مؤخرا في لقاء نظمه المعهد العربي لحقوق الانسان وتم خلاله عرض أفلام سينمائية حول الهجرة السرية ومخاطرها. وياتي اللقاء الذي حضره شبان ممن فشلوا في الابحار خلسة الى السواحل الايطالية ليدلوا بشهاداتهم وينقلوا هول ما عاشوه حتى يعتبر من ذلك الشبان الذين ما يزالون يحلمون بالهجرة رغبة في تحسين ظروفهم. وأقيمت تلك البادرة في اطار مساهمة مكونات المجتمع المدني في التوعية بمخاطر هذه الظاهرة المتفشية بين الشباب التونسي.

 وفي الواقع لم تبرز ظاهرة الهجرة السرية إلى إيطاليا فور سقوط نظام الرئيس السابق “بن علي” في كانون الثاني/ جانفي 2011. لكنها انحصرت منذ نهاية التسعينات في فئة اجتماعية معينة معظمها من غير الدارسين، قبل أن تستقطب الآلاف من الشباب التونسي حتى من حاملي الشهادات الدراسية العليا، بسبب ما يعتبرونه “عجز الحكومة الجديدة عن إدماجهم في  سوق الشغل”.

ولتفادي هلاك المهاجرين غير الشرعيين، تنقسم الإجراءات الحكومية في تونس إلى حلول أمنية تتمثل في تكثيف دوريات أمنية على مستوى الشريط الساحلي. وسنّ تشريعات قانونية، يرى المحامي “غانم فتيريش” أنها صارمة بما فيه الكفاية لردع المخالفين سواء  المهاجر أو منظم الرحلة.

ويقول المحامي لموقع “مراسلون” إن قانون التصدي للهجرة السرية، يخص نوعين من الجريمة، الاولى هي اجتياز الحدود خلسة بالنسبة للشخص المهاجر. أما الثانية فيقع توجيهها ضد منظمي الرحلات وتعتبر أشد عقوبة من خلال تصنيفها ضمن الجرائم الخطيرة وتصل تهمتها إلى تكوين “وفاق” أي عصابة منظمة. وتتراوح عقوبتهما بين 3 أشهر و20 سنة إضافة إلى دفع غرامات مالية تتجاوز 100 ألف دينار.

وأثبتت دراسة أعدها، المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، حول الهجرة السرية، أن 40 ألف تونسي غادروا البلاد بعد الثورة بطرق غير قانونية، وكان 24 بالمائة من عددهم طلبة وتلاميذ.

وبيّن المنتدى أن العديد من العائلات التي فقدت أبناءها تتحرق منذ سنة ونصف إلى معرفة مصير هؤلاء المفقودين ومازالت إلى حد اليوم تطالب  الجهات المسؤولة إيلاء عناية أكبر لهذا الملف من أجل معرفة الحقيقة.

مسؤولية الدولة

وجاء في ذات الدراسة، أن موجة الهجرة السرية الأولى، ومغادرة نحو 5400 شاب أصلي “جرجيس” البلاد مباشرة بعد 14 كانون الثاني/ جانفي 2011 مستغلين تردّي الوضع الأمني وسوء الأحوال الجوية أشعر الهيئات الحقوقية الوطنية والدولية أن الأمر أضحى على غاية من الخطورة لأنها لم تتعود سابقا على هجرة سرية بهذا الحجم.

وفي هذا الصدد يقول رئيس المنتدى عبد الرحمان الهذيلي “أجرينا تحقيقا في جرجيس لمعرفة أسباب هذه الهجرة، ثم أتممنا الجزء الثاني من هذا التحقيق في جزيرة لمبادوزا الإيطالية، وتبيّن لنا أن هؤلاء الشبان هم من أبناء الأحياء الشعبية الفقّيرة، كما اكتشفنا أن من يؤمّنون هذه الرحلات غير القانونية، ينتمون إلى عصابات خطيرة وهم سماسرة ووسطاء لا يولون اية اهمية لسلامة الناس ولا يبالون بأرواحهم”.

وفي نفس السّياق كشفت الدراسات التي أجراها المنتدى حول الهجرة السرية أن 55 بالمائة من المهاجرين هم من القاطنين بحزام الفقر في العاصمة وتالة والقصرين وأرياف القيروان وسليانة والكاف.

ويضيف الهذلي، أن  تونس مطالبة  بتوفير المعدات اللازمة لإغاثة من يحتاجون إلى النجدة في مياهها الإقليمية. وشدد على ضرورة مناقشة قضايا الهجرة السرية بعمق وتحديد المسؤوليات، والتأكيد على مسألة حرّية التنقل وعلى ضرورة احترام حقوق المهاجرين غير الشرعيين ومقاومة الرق الجديد الذي ظهر خاصة في ايطاليا حيث يقع استغلال المهاجرين غير الشرعيين استغلالا فاحشا لاسيما في القطاع الفلاحي، إضافة إلى مقاومة شبكات التهريب والعصابات التي تدير الهجرة السرية، على حدّ قوله.

لوعة عائلات المفقودين وطموح الشباب التونسي لتحقيق حلمه بالهجرة إلى البلدان الأوروبية، هربا من واقع اجتماعي قاس، يضع السلطات التونسية اليوم أمام تحديات تفرض التفكير في إيجاد حلول جذرية لإنهاء معضلة البطالة في البلاد، فضلا عن وجوب القيام بتحرك دبلوماسي عاجل للإفراج عن المعتقلين في مراكز الإيواء خاصة الإيطالية منها،  وتسوية وضعيات آلاف التونسيين الذين أسعفهم الحظ للوصول إلى أوروبا والعيش في مدنها، دون التمتع بوثائق الإقامة القانونية.