الباجي قايد السبسي عبر الى حياتنا السياسية دون استئذان، بعد أن صال وجال زمن بورقيبة وتقلّد أكثر من حقيبة وزارية.

حاول بعد انقلاب 7 نوفمبر/تشرين ثاني 1987 أن يكون رقما في اللعبة السياسية لكن طبيعة الجنرال بن علي لم تنسجم مع مزاج القايد السبسي المبهور بذهنية بورقيبة في الحكم وبثقافته وبروحه الأبوية المتسلّطة.


الباجي قايد السبسي عبر الى حياتنا السياسية دون استئذان، بعد أن صال وجال زمن بورقيبة وتقلّد أكثر من حقيبة وزارية.

حاول بعد انقلاب 7 نوفمبر/تشرين ثاني 1987 أن يكون رقما في اللعبة السياسية لكن طبيعة الجنرال بن علي لم تنسجم مع مزاج القايد السبسي المبهور بذهنية بورقيبة في الحكم وبثقافته وبروحه الأبوية المتسلّطة.

وعندما أتت الثورة واقتلع الثورة بن علي من أعلى عرشه، وأجبرته على الرحيل، أجبر شباب اعتصام القصبة الثانية محمّد الغنوشي الوزير الأوّل في زمن الدكتاتور، والوزير المرتبك بعد الثورة، على تقديم استقالته، ليكون خليفته الباجي قايد السبسي.

المشي على حبل الساسة

منذ أوّل حواراته برز الرجل الثمانيني بجبة السياسي المحنّك والمخضرم الذي لا يرهب الأضواء، ببداهته السريعة التي قد لا تتوافق مع سنه وجرأته التي بلغت أحيانا درجة من العدائية خاصّة في التعامل مع الاعلاميين.

فصاحته وخطابته جعلت منه متحدّثا بليغا لا يثير ملل سامعه وهو يحوّل أي خطبة عن السياسة أو الانفلات الأمني أو الاقتصاد المتعثّر فترة توليه رئاسة الحكومة الى نوع من الـ “ون مان شو”. ويعتبر خصومه أن أفضل مزاياه إتقان المشي على حبل السياسة بأمان.

يستعرض من خلالها الباجي قايد السبسي مهاراته المتنوّعة، في البلاغة الخطابية خاصّة. كلامه عبارة عن جمل رنانة لا تخلو من  الآيات القرآنية والأبيات الشعرية والمحسّنات البديعية. ولا ينسى في كل ذلك المواطن التونسي البسيط الذي يدغدغ مشاعره وذاكرته بالأمثال التونسية “العتيقة”.

وعندما يستفزّه أي موقف يسارع بصبّ جام نقده اللاذع على خصومه في عبارات ساخرة تنقصها في الغالب اللياقة واللباقة. ولعلّ أخطر ما قاله السبسي عندما وصف رجال الأمن غداة توليه لمنصبه كوزير أوّل بأنهم “قردة” وهو وصف أردا منه أن يحطّ من قيمتهم، ورغم ذلك يعلو تصفيق المستمعين!

قبل انتخابات المجلس التأسيسي، كان الباجي قايد السبسي نجم الساحة السياسية، وقاد البلاد الى اوّل انتخابات نزيهة في تاريخها أسفرت عن فوز الاسلاميين. قبل الانتخابات كانت لا تمرّ مناسبة الاّ وأثنى على الاسلاميين ودافع على أحقيتهم في الحكم. لكن بعد ذلك انقلبت المواقف الودية الى مواقف عدائية غير خفية، خاصّة وأن مصادر سياسية مختلفة تؤكّد أن “صفقة ” أبرمها السبسي مع حركة النهضة قبل الانتخابات، تقضي بأن للسبسي نصيبا من كعكعة الحكم إذا ما حصل الإسلاميين على نسبة كبيرة من الأصوات. لكن موازين القوى الانتخابية قلبت المعادلة وألغت الاتفاقات السابقة.

وراثة بورقيبة

أبرز فيديو مسرّب يوم تسليم حكومة السبسي مقاليد الحكم الى حكومة الترويكا برئاسة حمادي الجبالي، مدى توافق الرجلين. لكن الباجي انقلبت مواقفه وأصبح في كل مناسبة يوجّه نقدا لاذعا الى حركة النهضة وفشلها في تسيير البلاد، وعن ذلك يقول “حركة النهضة حزب أثبت فشله في الحكم وتسيير البلاد، هم يريدون السلطة فقط. إن الدولة لا تدار بهذا الشكل”.

بعد انتخابات أكتوبر/ تشرين اول 2011  بأشهر، أعلن السبسي ولادة “نداء تونس”، الحزب الذي اتخذ من البورقيبية شعارا لاستقطاب كل التيارات من اليسار واليمين، في استغلال للذاكرة الجماعية للتونسيين الذين ما زال الزعيم بورقيبة يحتل حيزا هاما من وجدانهم.

ولعّل القوة الخفية وغير المعلنة والتي تعتبر “الجوكر” في الحزب هو شتات حزب “التجمّع” المنحلّ والذي يستميت في ايجاد منافذ للعودة الى الحياة السياسية والعامة.

الطريق الصعب

شخصيات عديدة تدير الأعناق في “نداء تونس”، ومنها اليساري محسن مرزوق، الذي يقول “إن نداء تونس هو صمّام الأمان الذي سيحمي الديمقراطية والدولة المدنية من قوى الرجعية والجذب إلى الوراء”.

أما خميّس قسيلة العلماني المنشق عن حزب التكتّل، فاتخذ من نداء تونس وجهة ومحطة وتمكّن من ايجاد كتلة نيابية داخل المجلس التأسيسي من نواب انشقوا عن أحزابهم وغيروا وجهتهم للنداء كنجم التأسيسي ابراهيم القصاص.

 ينفي قسيلة أن يكون نداء تونس مأوى للتجمعيين وملاذا لجلادي الشعب. ويرفض بشدة قانون الاقصاء التي تريد بعض الكتل، بدعم من النهضة، تمريره في المجلس التأسيسي. ويؤكّد “أن القضاء هو الوحيد المخوّل لممارسة الاقصاء حسب الأفعال الاجرامية وليس حسب النوايا”.

والى جانب مرزوق وقسيلة يعجّ حزب “نداء تونس”، وبشكل مثير بالوجوه السياسية والثقافية المعروفة باختلاف مراجعها ومشاربها الفكرية والايديولوجية. لكن تتفق هذه الوجوه على هدف واحد هو الوصول الى السلطة مهما كانت التكاليف، وهو ما جعل الكاتب الصحفي صافي سعيد يصف “نداء تونس” بكونه “قطيع من الذئاب يقودها أسد هرم”.

في “نداء تونس” نجد كذلك العديد من رجال الأعمال الذين تلاحقهم شبهات الفساد زمن بن علي وعلى رأسهم كمال لطيّف والذي يقال عنه انه محرّك الدمى الرئيسي من خلف الستار، كذلك نجد فوزي اللومي رجل الأعمال الذي أثار منذ أيام زوبعة كادت تطيح بنداء تونس وتفجّره من الداخل عندما اعترف ان النداء هو رديف للتجمّع، وهي التهمة التي طالما دحضتها جماعة النداء المعتدّين بكونهم دستوريون وليسوا تجمعيين. لكن حنكة قايد السبسي جعلته يطوّق الصراع الوليد داخل حزبه بسرعة.

قوة مضادة للنهضة

ولأن “نداء تونس” يريد أن يبرز كقوة مضادة للنهضة، خاصّة وأن عمليات سبر الآراء تصب جميعها في صالحه، عمل وبإشراف عقله المدبّر الباجي قايد السبسي على استقطاب أحزاب لها تاريخها ولها وزنها في الشارع التونسي كالحزب الجمهوري وحزب المسار في جبهة تحالف انتخابي وقوة ضغط ديمقراطية في مواجهة حركة النهضة وحلفاءها. 

و لكن نداء تونس كمن يمشي على الألغام لان خصومه لم ينفكوّا عن النبش في دفاتر قديمة وسوداء ومنها قضية اليوسفيين المتهم فيها السبسي رأسا، لكنه كالعادة  نفى الاتهامات التي تلاحقه بخصوص تعذيب اليوسفيّين واعتبرها كذبا و تلفيقا.

وتذهب آراء أن نداء تونس الحزب الوليد والذي يعوّل على الشخصية الكارزماتية للباجي قايد السبسي، قد يشهد فترات عصيبة مستقبلا وتعصف به الاختلافات قبل أن يبلغ مريديه هدفهم الوحيد، أي السلطة.