في امتداد شارع جمال عبدالناصر الذي يقسم بنغازي نصفين يقع شارع “الداقادوستا” المجاور لمناطق البركة وحي الزيتون والكيش، ورغم أن منازل هذا الحي تبدو من الخارج فخمة وجميلة، ويجاورهم شارع دبي الأشهر في بنغازي لاحتوائه على محال تجارية لماركات عالمية مختلفة وعلى سوق الذهب أيضاً، إلا أن “هذه المنطقة بالكامل مهددة بالانهيار بسبب ارتفاع منسوب مياه باطن الأرض” بحسب بعض المتابعين .
ما حجم الخطر؟
حجم الخطر الذي يهدد المنطقة لا يمكن التكهن به بمجرد النظر إلى الوضع من الخارج، رغم أن المار من هناك سيلاحظ أن الإشارة الضوئية التي تربط مستشفى الأطفال ومركز بنغازي الطبي وجامعة العرب الطبية ساقطة على الأرض بسبب حُفر المياه تحتها، كما يُلاحظ بوضوح التصدع في الطريق الإسفلتي بشارع دبي.
شكاوى الأهالي في شارعي دبي والداقادوستا التي استمع إليها “مراسلون” تشرح كيف أن ارتفاع منسوب المياه وصل إلى أقبية منازلهم، ما اضطرهم لتركيب مضخات تسحب المياه من الأرض وتضخها للخارج، يقول حسن صالح (47 عاماً) إن الوضع أصبحت تداعياته “مخيفة”، فهم لا يعلمون إن كانت المياه ستستمر بالارتفاع مهددة بانهيار المنازل، كما لا يعلمون إن كانت الجهات المسؤولة ستلتفت أخيراً لهذا الوضع وتجد له حلولاً.
يقول محمد علي (33 عاماً) ويسكن في الحيّ نفسه، “هذه مشكلة عامة وليست في حيّنا فقط، فارتفاع منسوب المياه يمكنكم مشاهدته في المناطق المجاورة لنا مثل الكيش القديم وحيّ الزيتون ومركز بنغازي الطبي ووصل منطقة الرّحبة في ضواحي بنغازي”، وهذه الأحياء يسكنها الآلاف وبقية سكان بنغازي يمرّون من شوارعها “فالمشكلة خطيرة تسببت في أضرار بالشارع الرئيسي كما تراه وانهار ما تحت الإشارة الضوئية فسقطت”.
وحسب قول السكان فقد تقدم أهل الحي بشكاوى للجهات المسؤولة منذ مدة أكثر من مرّة ولكن “لا حياة لمن تنادي” كما يقولون، ورغم أن المجلس البلدي بنغازي شكل لجنة فنية للنظر في الموضوع واقتراح الحلول إلا أنها حسب اتفاق الجميع “شُكلت منذ أشهر ولَم تفعل شيئا على أرض الواقع”.
تفسيرات مختلفة
المهندس مالك عبدالحكم استشاري البنى التحتية والتخطيط العمراني كان أحد أعضاء اللجنة التي شكلها عميد الجلس البلدي بنغازي السابق، والذي حسب قوله “استجاب لشكوى المواطنين وشكّل قبل ثلاثة أشهر لجنة فنية وظيفتها التشخيص واقتراح الحلول لا تنفيذها، وقد ضمّت نخبة من المهندسين والجولوجيين من شركة الخليج العربي للنفط وجهاز النهر الصناعي والهيئة العامة للمياه والتربة والشركة العامة للمياه والصرف الصحي”.
وبعد اجتماعات اللجنة والزيارات الميدانية التي قامت بها لشارعي دبي والداقادوستا وإجراء التحاليل للمياه تبيّن حسب عبد الحكم “أنها مياه سطحية لا جوفية لأن الجوفية توجد تحت مستوى عميق من سطح البحر والسطحية توجد بعيدة عن البحر في مستويات أقل” وقد أعدّت اللجنة تقريرها وأحيل لجهات الاختصاص، وبذلك انتهى دورها حسب قوله.
عضو آخر من ذات اللجنة هو المهندس محمد المشيطي من الهيئة العامة للموارد المائية، أكد أن التقرير الفني الذي أعدوه قد تم تسليمه لعميد المجلس البلدي الجديد أحمد العبار منذ شهرين، وقد تضمن التشخيص العلمي المبدئي للوضع أنه قد تكون أسباب ارتفاع منسوب المياه هي مياه الشرب المتسربة من مواسير شركة النهر الصناعي، وعند تحليل اللجنة للمياه في مختبر شركة النهر ومختبر خارجي تبين اختلافهما بزيادة نسبة ملوحة هذه المياه، لكنّ بعض الأكاديميين من الجيولوجيين في اللجنة ذكر بأن المياه قد تكون مرت على تربة ملحية فتغيرت خصائصها.
هذا الاحتمال الذي رجحه تقرير المختصين لا يتفق معه المشيطي، لأنه حسب قوله منسوب المياه في باطن الأرض ارتفع أيضاً في منطقة الرحبة في ضواحي مدينة بنغازي حيث لا يوجد أية مواسير لشركة النهر الصناعي، كما أن التسريب في مواسير النهر وبسبب قوة ضخ المياه سيجعل المياه المتسربة تطفو فوق سطح الأرض ولا تنزل لمستويات عميقة لأن عمق ماسورة النهر الصناعي لا يتجاوز متراً واحداً تحت سطح الأرض حسب تفسيره.
ما العمل؟
الجهة المسؤولة عن تنفيذ الحلول هي المجلس البلدي للمدينة والذي توجه إليه “مراسلون” ليلتقي المهندس أسامة الكزة مدير إدارة المشروعات بالبلدية، حيث كشف لنا بأن اللجنة سلمت تقريرها وطلبت في توصياتها حفر مجموعة آبار اختبارية في مناطق اقترحتها لمعرفة خصائص المياه وعمقها ثم تشخيصها بشكل دقيق لعلاجها، واقترحت كذلك للعلاج المؤقت استبدال خطي مياه الشرب والصرف في شارعي جمال عبدالناصر ودبي.
إلا أن هذه التوصيات “للأسف لا يمكن للبلدي تنفيذها الآن لأننا نعاني من عجز كبير في الميزانية وصل 16 مليون دينار ليبي، وقد اقترحنا ميزانية طوارئ للحكومة المؤقتة بقيمة 70 مليون دينار لم يرسلوا لنا منها سوى 5 مليون في الشهر الماضي لا تكفي مستحقات أعمال النظافة لمدة 3 أشهر وهم لم يتقاضوا مرتباتهم منذ 6 أشهر”.
حسب قول الكزة فإن بنغازي ورغم أنها صنفت من مجلس النواب بأنها “مدينة منكوبة” لكن لا أحد يلتفت إليها، ويؤكد “لامانع لدينا من استلام دعم من الحكومة في طرابلس لأن الأموال لليبيين جميعا”، ولازال البلدي يسعى حسب قوله لإيجاد وسائل تمويل ودعم، فمثلاً اتفق البلدي مع شركة برازيلية موجودة في ليبيا تشتغل بعقد بنى تحتية لمشروع متوقف على أن يأخذ منهم الأنابيب لتكون التكلفة فقط في التركيب ومع ذلك لا زال التمويل مطلوباً لتنفيذ العمل، ويختم بقوله “أنا مواطن بنغازيّ أستنكر هذا الإهمال والتنكّر للمدينة الذي لا نعرف أسبابه”.
من المسؤول عنّا؟
تذرعات المجلس البلدي بنقص الميزانية لا يقبلها المواطنون أمثال محمد علي الذي علق على هذا الكلام قائلاً “الميزانية تظهر فقط لإجراء الصيانات المطلوبة في الشارع الذي يوجد به منزل المسؤول وتغيب في شارعنا”، كما ظهرت أيضاً حسب قوله في مركز بنغازي الطبي حيث “بنيت آبار لسحب المياه بعد ارتفاعها وضخّها لحماية المبنى الحكومي، أما المناطق التي يسكنها مواطنون لا يملكون تنفيذ حلول عاجلة تنقذهم إذا تفاقم الوضع فمن المسؤول عنهم؟”.
حسب كلام محمد علي وحسن صالح فإن على المسؤولين على الأقل الحديث للناس عبر وسائل الإعلام وشرح الوضع ليعي الناس خطورة الموقف الذي تعيشه المدينة، وإلا حسب قول صالح “على العاجزين الاستقالة التي تحسب لهم”.
يعلق المشيطي من الهيئة العامة للموارد المائية على هذا الكلام بقوله إن “أمام منزل المسؤول الذي يسكن في شارع مجاور لمحمد كانت المشكلة في ماسورة واحدة بمقدور شركة المياه والصرف الصحي علاجها، أما مشكلة شارع دبي فتحتاج تغيير كامل الأنابيب للخط المتهالك وهو من اختصاص لجنة في إدارة المشروعات بالبلدية”.
ومع ذلك يقرّ المشيطي بأن من حق الناس إيجاد حل سريع لمشاكلهم بعيداً عن الدراسات العلمية الطويلة، والحلّ المؤقت للمشكلة حسب نصائح المكاتب الهندسية للمواطنين يقضي بردم الطابق السفلي للمنزل أو استعمال المضخات لسحب المياه، ويطمئن بأن “مشكلة ارتفاع منسوب المياه لن تتفاقم بشكل كبير في وقت قريب لكن هذا لا يبيح لنا إهمالها”.