مشهد الناس المصطفين يومياً في رمضان أمام المصارف بانتظار الحصول على بضع مئات من الدينارات هي جزء مما يملكونه فعلاً في حساباتهم البنكية، صبغ هذا الشهر الذي يفضل فيه الليبيون اللجوء للراحة والاستمتاع بلياليه وأجوائه العائلية بصبغة معاناة لم يعهدوها من قبل.
ورغم أن إشكال النقص الحاد في السيولة المالية بالمصارف ليس حديثاً، إلا أن حدته في رمضان ازدادت مع ازدياد متطلبات الحياة اليومية، فما الذي فعلته الجهات المعنية لشرح ومواجهة الأزمة التي تتصاعد باستمرار، هذا ما رد عليه الدكتور عبد الرحمن هابيل عضو مجلس إدارة مصرف ليبيا المركزي في هذا الحوار:
س- ما أسباب الأزمة المالية والاقتصادية من وجهة نظرك؟
ج- انعدام الاستقرار السياسي والأمني أدى لأزمة اقتصادية ومالية، الأزمة الاقتصادية سببها انهيار إنتاج النفط وعدم سيطرة الدولة على الإنتاج وانخفاض أسعار النفط، وهذا المورد الرئيس للدولة الليبية، أما الأزمة المالية فسببها نقص السيولة حيث أصبح التجار والمواطنون يحتفظون بأموالهم خارج المصارف حتى بلغت 30 مليار دينار، وانعدمت الثقة في القطاع المصرفي، مع وجود إخفاقات من المركزي سببها الرئيس انقسام المؤسسة المصرفية.
س- لماذا لم يفعل المركزي شيئاً لتفادي الأزمة قبل حدوثها أو لمعالجتها بعد ذلك، ويرفض المطالبات بتعديل سعر الصرف كجزء من حل الأزمة؟
ج- السياسة النقدية تتحكم فيها عندما يكون لديك إيراد مالي غير متوقف وعملة أجنبية ويمكنك استيراد الدولار من الخارج، وهذا لا يأتي بدون استقرار سياسي وأمني، وتعديل سعر الصرف جزء من السياسة النقدية التي لا يمكنك تنفيذها دون امتلاك عملة أجنبية تضخها في البلاد، وفي عامي 2011-2012 كان سعر صرف الدينار في أحسن حالاته وبعد ذلك خرج الأمر من يد المركزي لأنه لم يعد يمتلك عملة أجنبية تمكنه من تعديل سعر الصرف، فمن أين لمحافظ المركزي الأموال إذا لم يكن للدولة دخل؟.
لو يرتفع معدل تصدير النفط نتحصل على الدولار فيمكننا تعديل سعر الصرف، أضف لذلك أننا ممنوعون من استيراد العملة الأجنبية بعد حادثة سرقة 10 مليون دولار في سرت عام 2014 التي حدثت بسبب الانقسام السياسي وتردي الأوضاع الأمنية، ولا يمكننا تعديل سعر الصرف عن طريق الاحتياطي لأنه قوت الأجيال القادمة.
س- بعض الاقتصاديين يرون أن تعديل سعر الصرف ضرورة حتمية بعد توحيد مجلس الإدارة؟
ج- لا يمكننا ذلك إلا إذا استهلكنا الاحتياطي وهذا لا يمكن للمركزي فعله إلا باستفتاء الشعب الليبي أو عن طريق مجلس النواب بأغلبية ثلثي أعضائه فهم من يقرر صرف الاحتياطي اليوم وتعديل سعر الصرف من خلاله، وهذه مسؤولية تاريخية كبيرة لا أحد يستطيع تحملها لوحده لا المحافظ ولا أعضاء مجلس الإدارة.
انقسام المؤسسة المصرفية بين البيضاء وطرابلس أدى إلى عجز وتقصير في اتخاذ القرار، ففي البيضاء لا يملكون التوقيع ولا التصرف في الاحتياطي وفي طرابلس تفتقر للشرعية والمحافظ لوحده بدون مجلس إدارته، كلاهما لا يمكنه فعل شيء لوحده، فالانقسام شرخ خطير وكبير، وقد حاولنا عقد اجتماعات في تونس أكثر من مرة وبحضور السيد الصديق الكبير وتجاوزنا كونه مقالاً ومدته منتهية الآن خمس سنوات اكتملت واتفقنا على أمور منها الشفافية في الاعتمادات ولجنة مشتركة من البيضاء وطرابلس ولكن لم يطبق منها شيء، والاجتماع كان تحت اللجنة المالية في مجلس النواب.
س- لكن التصريحات الأخيرة لمحافظ المركزي في البيضاء أفادت بقرب حصوله على العملة الصعبة، ما يعني أنه يملك أكثر من قرارات على الورق؟
ج- يتحصل على الدولار مقابل ماذا؟ على أرض الواقع لم يتحقق شيء هي مجرد أفكار، وأنا مع كل شيء يخفف من معاناة المواطن التي تتفاقم يوماً بعد يوم.
س- يرى بعض المحللين أن الاحتياطي وجد لحل الأزمات وليس للاحتفاظ به للأجيال القادمة فقط واليوم هو جزء من حل الأزمة المالية؟
ج- نعم، لكن تعديل سعر الصرف بالاحتياطي سيؤدي إلى نهاية الاحتياطي بعد سنة لأن الأزمة السياسية والأمنية التي أنتجت الأزمة المالية مستمرة، ومن يطالب بتعديل سعر الصرف هم أنفسهم يقولون سنقترض بعد سنتين ونحن نصرف في المرتبات والدعم فكيف لو أضفنا لهما تعديل سعر الصرف سنقترض بعد أقل من سنة؟ أنا أرى أن احتياطي يكفي ليبيا لثلاث سنوات قادمة يكون أفضل من استهلاكه في سنة ثم التوجه للاقتراض.
س- على ذكر الاقتراض، البنك الدولي حاول منذ ثلاث سنوات تقديم مقترحات للمركزي ولم يتم النظر إليها، ما تعليقك؟
ج- المشكلة ليست فنية مشكلتنا سياسية أمنية وهذه لا تحتاج لاستشارات البنك الدولي، ومن يتحدث على الاستعانة بالبنك الدولي اليوم إما أنه لا يفهم حقيقة المشكلة أو يريد تشويش الصورة، وإذا تم تعديل سعر الصرف عن طريق الاحتياطي سنتوجه للاقتراض من البنك الدولي في وقت قريب.
س- الاعتمادات الأخيرة التي منحها المركزي بقيمة 500 مليون دينار أسهمت في زيادة ارتفاع الأسعار، ووصفها بعض المراقبين بأنها غير واضحة ومريبة، ما تعليقك؟
ج- في آخر اجتماع في منتصف أبريل الماضي لمجلس إدارة مصرف ليبيا المركزي بحضور 4 أعضاء من أصل سبعة، والاجتماع صحيح إذا حضر المحافظ أو نائب المحافظ ومن يقول إن السيد علي الحبري ليس محافظاً ومطعون في ذلك فهو على الأقل نائب المحافظ وبذا يكتمل النصاب أي فوق النصف، وطالبت بإصدار بيان نتبرأ فيه من الاعتمادات الأخيرة التي صدرت في طرابلس حيث لم تتم مشاورة أعضاء مجلس الإدارة في ذلك.
موضوع الاعتمادات غير واضح ويفتقر للشفافية وبالتأكيد المركزي في طرابلس متعرض لضغوط فلا سبيل للحصول على العملة اليوم إلا عن طريق الاعتمادات، ويحسب للمركزي اشتراطه فتح الاعتمادات نقداً للحصول على السيولة وإرجاع بعض الأموال الخارجة عن القطاع المصرفي وهذا ليس لعدم دعم الدفع الإلكتروني كما يقال.
س-هل أنت مع تقنين منح الاعتمادات في السلع الضرورية وأن تقوم به جهة مختصة تتولى الاستيراد والتوزيع تحت رقابة شديدة؟
ج- يجب اقتصار الاعتمادات على السلع الضرورية فقط وليس منها مواد البناء لأنها كماليات في وقتنا الحاضر، وأكثر ما يستنزفنا اليوم دعم الوقود والسلع الضرورية التي تهرب إلى دول الجوار ولا تصل للمواطن.
س-على ذكر دعم الوقود والسلع الضرورية، منذ سنوات نسمع مطالبات بضرورة تحويله إلى دعم نقدي يصل المواطن في حسابه، ما رأيك؟
ج- نعم، مفروض يتوقف الدعم ويتحول إلى دعم نقدي، لكن الانقسام يؤثر على هذا، لو اتخذت القرار مؤسسة البيضاء سيكون حبراً على ورق، وفي طرابلس المحافظ لوحده لا يمكنه ذلك، وهذا يحتاج إلى مؤسسة تشريعية وإدارة تنفيذية قوية وللأسف اليوم المؤسسة منقسمة الشرعية في الشرق والأموال في الغرب، كان يجب على المركزي القيام بهذا قبل سنوات لكنه تأخر في هذا كثيراً، واليوم الضغوط على المحافظ في طرابلس لا تسمح له باتخاذ قرارات جريئة كهذه.
س- على المركزي إصدار أدوات لسحب السيولة، جملة يرددها كثير من المصرفيين، هل استجاب لها المركزي؟
ج- يمكن أن يقوم بذلك ومنها طباعة عملة جديدة وسحب فئات من العملة القديمة، لكن هذه مسكنات وليست حلاً للأزمة، المشكلة أنها لما تنزل للسوق لا ترجع للمصرف لغياب الثقة في البنوك، ومع هذا لا يمكن الاستغناء عن الحقن المهدئة لكنها ليست الحل، لأن السياسة النقدية بدون الحل الأمني والسياسي لا تسمن ولا تغني من جوع.
س- في غياب السيولة وعجز الناس عن سحب أموالهم من المصارف منذ بداية رمضان، ماذا فعل المركزي وماذا كان بمقدوره أن يفعل؟
ج- مبادرة المصرف المركزي بطباعة أوراق نقدية أسهم في التخفيف إلى حد ما من أزمة السيولة ولم يكن في مقدوره أكثر من هذا لأن الأزمة ناشئة عن الأوضاع الأمنية التي أفقدت الثقة في المصارف وجففت السيولة فيها فالأزمة أمنية وليست في حقيقتها مصرفية كما أشرت، أما الاستعاضة عن التعامل النقدي بالبطاقات وهو مطروح للتخفيف من الأزمة فهذا يحتاج وقتاً واستقراراً ولا يمكن للمصرف المركزي إدخال الأنظمة المصرفية الحديثة في ظل الظروف الحالية والنظام المصرفي الليبي متخلف منذ النظام السابق.
س- انتشرت دعوات أطلقها محامون على صفحات التواصل الاجتماعي لرفع دعاوى قضائية ضد المصارف بسبب عدم تسليم الناس أموالهم، هل يمكن أن يكسب الناس مثل هذه القضايا لو رفعت، وهل يعفي بند القوة القاهرة المصارف من مسؤولياتها؟
ج- المصارف كما ذكرنا ليست مسؤولة عن أزمة السيولة، والدليل أننا واجهنا نفس المشكلة سنة 2011 ولكن السيولة عادت إلى المصارف بعودة الأمن في السنة التالية 2012 في ظل حكومة الكيب، وهكذا فإن المصارف ستحتج في أي دعوى ترفع عليها بالقوة القاهرة.