أول ما يتنبه له مشاهد أفلام محمد خان ( 1942-2016) هو المشهد الغني.

يمكن أن يستغرق في تأمّل تفاصيل المشهد البصري، أن يسرح، بل يبدو أن هذا كان الهدف. المشهد باذخ محمل بملامح المكان، خاصة حرصه على التصوير في الشارع، ورصده أثر الضوء على الأشخاص.

أول ما يتنبه له مشاهد أفلام محمد خان ( 1942-2016) هو المشهد الغني.

يمكن أن يستغرق في تأمّل تفاصيل المشهد البصري، أن يسرح، بل يبدو أن هذا كان الهدف. المشهد باذخ محمل بملامح المكان، خاصة حرصه على التصوير في الشارع، ورصده أثر الضوء على الأشخاص.

سينما تبحث شكل المدينة وحركة الأبطال داخلها. العناية بالمكان الموضوع الأبرز عنده يكاد يطل من الصورة. خلال مسيرته كان يفضل العمل مع مع مدير التصوير سعيد شيمي، وفي بعض الأحيان تعاون مع آخرين مثل طارق التلمساني في “مشوار عمر” (1986). 

كنت أركز في العناية بشريط الصوت داخل الفيلم مثل إذاعة ردايو مونت كارلو في “مشوار عمر”، أغاني ليلي مراد “في شقة مصر الجديدة” (2007)، الولع بعبد الحليم حافظ في “زوجة رجل مهم” (1988). لكن مع الوقت لاحظت ولعه بالمكان، ومحاولته إسباغ الزمن عبره.

الأمر ليس ميلا نحو واقعية مثلما يكتبْ في الأدب، بل إن هذا المخرج يبث عبر المكان رسائله. لا ترتبط المسألة بكونه مسرحًا للأحداث، وإنما سنجد للمكان حضور أو سطوةً تغير هذه الأحداث. يضع المكان بصمته على سير الحكاية المصوّرة، يحركها وفقًا لإرادته. النزال الأكبر، عادة، بين البطل والمدينة، بينما الزمن هو مسرح الفيلم، يترك الجميع آثارهم على هذه المساحة دون أن يؤثر الأخير إلا بسريانه حتى نهاية الفيلم.

صورة الإنسان المعاصر

يجسد المخرج الخيال عبر تصويره للأحداث وأمكانها وشكلها، يضفي على قصته طابعها الواقعي ليؤكد أن الزمن مرّ على هذا المكان، وصار الفن حلما مجسدا وقابلًا للتحقق.

مع رحيل خان، مؤخرا، بدأتُ التنقيب مرة جديدة في عالمه الزاخر. ليس بحثًا عن الأفضل، وإنما عن صور المكان التي سربها داخل عالمه الفني، علاقة البطل بالمدينة. تراجع هذا الهاجس في الأعمال الأخيرة، وإن بقت مسألة شريط الصوت.

منذ فترة صرت مقتنعًا أن الفن ليس إلا ما يعبر عن الإنسان المعاصر. عالمه، هواجسه، آلامه، نزقه، مراهقته الأبدية، كيف حولت التكنولجيا مشاعره إلى كم مهمل. وهذا ما أجده في عدة أعمال لخان، كيف كانت شخوص الفيلم تصارع واقعها أو تتأمّل سريان الزمن، نلمح الحضور اللافت لهذه الأفكار ومحاولات حساسة لرصد حياة هذا الإنسان المعاصر ونزاله مع المدينة مثل “الحريف” (1983).

الفنان ليس مسيرة نجاح، وإنما مسيرة بين الفشل والنجاح معًا. يوظف الخيبة، بشكل فني، حتى لا تكون في أسوأ صورة على الأقل. في النهاية هو إنسان معاصر، يصيب ويخطئ، تطحنه الظروف وتجبره على خيارات ما كان ليفعلها.

قدم هذا الفنان المعاصر/الراحل للمشاهد 26 فيلمًا ساهمت في صناعة متعة المشاهدة، ضمنها قدم أعمالًا تجارية وخفيفة. عبّر عن ولع المصريين بمشاهدة أفلام الحركة الأسيوية عبر شرائط تسجيل الفيديو مثل “مستر كاراتيه” (1993). كما قدم فيلم “أيام السادات” (2001). لم يقدم أي تساؤلات جديدة أو طرح رؤية مختلفة عن الرئيس المصري الراحل محمد أنور السادات (1918-1981)، حيث استند كاتبه أحمد بهجت على مذكرات كل من الرئيس المصري الراحل وزوجته السيدة جيهان.

الخروج من حلبة صراع

حينما نكتب عن مسيرة خان، فهذا ليس رثاءً أو وداعًا لمخرج عظيم، إنما لأن هذا الراحل كان فنانا معاصرا. شغل نفسه طوال مسيرته بأسئلة قد تكون شغلت غيره، لكنها حرّكته نحو محاولات فنية ملفتة وفارقة في السينما المصرية. انحاز هنا لجماليات بعض أفلامه، وليس كل أفلامه بالتأكيد.

كانت هناك جسور للمشاة تعبر فوق ميدان التحرير، وبجواره في منطقة باب اللوق، أيام وجود محطة للأوتوبيس هناك. نلمح المارة، ألوان ملابسهم، أشكال أجسادهم، أذواقهم، تآلفهم المستسلم لمرور الكاميرا وسطهم. بالتأكيد لا يجري الممثل نور الشريف (1946-2015) وسطهم كل يوم حاملًا حقيبة. ولايكون ممسكا بيد نورا، لكنهم يتحركون في هذا الفضاء الفني “ضربة شمس” (1980) في الشارع بالفعل، وليس داخل بلاتوه. أفكر في حجم المعاناة المبذولة من أجل الحصول على تصوير خارجي بهذه الجودة.

برّع خان في تصوير المطاردات في الشوارع، حيث جسدها جريًا على الأقدام، في الغالب، وليس عبر السيارات. في “نص أرنب” (1983) كانت المطاردات المكون الرئيس. ماذا كان سيحدث لو لم تكن هناك كل هذه المطاردات داخل المترو في ضربة شمس؟

مطلوب دفع خمسة ملايين في “فارس المدينة” (1993) بشكل عاجل. يجوب فارس مدينته طولا وعرضا لجمع هذا المال، نتابعه مع أنغام صوت أم كلثوم. يبيع مملكة مترامية الأطراف دون إرادته، بأسرع وقت، بالشكل الذي يراه الدائن. لا نعرف أسباب الخسارة ولا حتمية الدفع كذلك.

ينهار عالم فارس بعد قرار الحكومة مصادرة أموال شركات الاستثمار، التي كان المصريون يدخرون أموالهم بها مقابل عائد / فائدة أكبر مما كانت تقدمه البنوك. مارست عدة شركات عمليات نصب كبيرة فكانت قرارات المصادرة.

لا ينشغل المخرج بتقديم حكايات و خفايا عالم المال في أوائل التسعينيات. نرى أزمة فارس، بعد مصادرة شركة كان شريكًا بها، لتعبر عن المدينة وسياسات حكمها وتوزيع القوى بها. رحلة خسارة في مكان يلعن تاجر العملة الأمريكية السابق، الذي أسس مملكته بأموال ملوثة. عمل فارس المدينة في كل المجالات الممنوعة، رغم ذلك هو آمن من بطش القانون به. تجوب السيارة المدينة في سرعة، بلا تردد في خسارة كل ما مَلَك. يرسم الفيلم خريطة مملكة فارس، وينتزعها فارس جديد منه.  لا يخرج من مدينته إلا للإسكندرية، ليلة واحدة، لكن هناك يعترف بحبه لممرضة (لوسي) قابلها صدفة، لكنه لا يطلب الزواج منها إلا حينما يبتعدا سويا عن متاهة العاصمة.

يحرر خان عادة البطل عندما يغادر القاهرة التي تنازل الإنسان المعاصر وتسحقه. خارج المركز يكون حرًا، يكتشف خيارات أخرى في الحياة مثلما جرى في “طائر على الطريق” (1981)، و”خرج ولم يعد” (1985).