كنّا قد تربينا، ونحن صغار، على النظر إلى المُدرّس بتقدير واحترام، لأن التعليم والتربية كانا عنوانًا الوزارة المسؤولة عنّا في المدارس من ناحية، ولأن أهالينا أحبوا فكرة تقدير الأكبر سنًا.

في الفصول الدراسية كانوا يزرعون في وعينا الأفكار حول كون المدرس القدوة الأمثل لنا، وفي البيوت كرّس الكبار لاحترام المدرسين.

في الغالب كان التعليم يرتبط بإخضاع المُتعلِّم. وسارت سنوات طفولتنا على خلفية يتردد فيها بيت لأحمد شوقي حول تبجيل المدرس، وأن الأخير “كاد أن يكون رسولًا”.

كان المدرس مفضلًا حتى صار مدانًا بدعوى أننا سنحيا حياة كريمة إذا تخرجنا في كليات الطب أو الهندسة أو الصيدلة، ولحدوث ذلك نحتاج كطلاب إلى شرح جيد، وهو أمر لم يكن موجودًا في المدارس.

شاهدنا إلقاء اللوم على المدرسين من جانب أهالينا. قالوا لنا أنهم لا يشرحون جيدًا، ولا يريدون إلا الأموال، وأننا، آباء وطلاب معًا، سنرضخ لمطالبهم وسنأخذ دروسًا إضافية خارج أسوار المدارس، في بيوتنا.

صار الطلاب منذ الثمانينيات ملزمين بالذهاب إلى المدارس نهارًا والمراكز التعليمية ليلًا.

يستمر ذلك حتى الآن حينما تعلن وزارة التربية والتعليم أن مشكلة التعليم تتلخص في تجاهل المدرسين لرفضها لظاهرة الدروس الخاصة.

هنا نحاول أن نرصد حال المدرسين عبر حديثين قصيرين مع اثنين منهم، الأول خرج من الوزارة وصار على المعاش، والثاني لا يزال يعمل بالتدريس.

 

أيام الشغل في الفصول

يخبرنا محمود سامي أنه كان شاهدًا على سنوات الشغل في الفصول، كان المدرسون يقدموا الحصص في الفصول فقط. عمل سامي مدرسًا للرياضيات بواحدة من مدارس الثانوية العامة الحكومية للبنات بحي السيدة زينب، حتى خرج إلى المعاش مؤخرًا.

ولا ينكر أن بعض الطلاب كانوا يحصلون على دروسًا خاصة في بعض المواد. لكنها تحوّلت إلى ظاهرة في فترة تولي الوزير حسين كامل بهاء الدين (1991- 2004)، لأن سياسته كانت تعتمد على المتابعة من الناحية الإدارية وإهمال الفنية، وذلك بأن يكون تركيز الرقابة على وجود المدرس في الفصل دون بحث إذا كان يدرّس بشكل جيد أم لا، ولا طريقة شرحه، حسب تعبير سامي.

في البداية لم يكن أمام الأُسر المصرية إلا الاختيار بين إلحاق الأبناء إما في مدارس حكومية أو خاصة، الأسرة التي تتمتع بقدرات مالية جيدة يمكنها أن توفر فرص تعليم أفضل لأفرادها الصغار إذا تواجدوا في مدارس تقل كثافة الطلاب داخل فصولها.

توفر المدارس الخاصة مزايا دراسية مثل تدريس الرياضيات والعلوم باللغة الإنجليزية أو الفرنسية، ومنها ما أسسته جاليات أجنبية في البلاد، وصارت تُدار من جانب الدولة، بعد ثورة 1952.

***

بينما كان التعليم الحكومي العام والتجاري والصناعي والعسكري والأزهري كذلك، لا يقدم مواد بلغات أخرى حتى استحدث نظام جديد في 1985، والذي يوفر لطلاب المدارس الحكومية العامة دراسة مواد بالإنجليزية، وتوّسعت التجربة لتضم إلى المدارس القومية أخرى سميت بـ “الرسمية لغات”، وتنقسم إلى فئتين واحدة منهما المتميزة وتقل كثافة الطلاب بها عن 30 طالبًا.

لكن الآن تنوعت المدارس ليكون منها ما يستقي مناهجه وأسلوب تعليمه من تجارب دولية مثل البريطانية والأمريكية وأخيرًا اليابانية.

***

ويعتبر محمود سامي أن الطالب صار مضطرًا لأن يكون ضمن تعليم مواز، ولم يعد في حاجة إلى الذهاب إلى المدرسة لأنه يحصل على دروس في كافة المواد.

ويشير إلى أن وجود أنواع مختلفة من المدارس أثر على كفاءة التعليم الحكومي، ويوضح أنه حينما بدأ حياته العملية كانت الأوضاع في المدارس جيدة، لأن أولاد المسؤولين في الدولة كانوا طلابًا في المدارس الحكومية، ويقول:” أولاد وبنات الرئيس السابق جمال عبد الناصر مثلا كانوا في المدارس التابعة للدولة، أما الوضع صار مختلفًا منذ التسعينيات، فيلحق المسؤول ابنه/ ابنته بمدرسة خاصة دولية.. لم تعد هناك رقابة”.

 

تقديم طه حسين داخل الفصل

بشكل تدريجي تحوّل التعليم إلى ظاهرة شكلية تحدث صباحًا، بينما يحدث التدريس خارج أسوار المدارس وبعد أوقات العمل الرسمي، يجري ذلك مقابل أموال تدفع بخلاف مصاريف المدارس.

كنّا طلاب ونعيش هذا الانقسام، ولا يزال قائمًا، وإن كان سريًا. الطالب الذي يحصل على درس خاص لا يُخبر أحدًا بشأنه، بينما يستمر إعلان الوزارة عن محاربتها لظاهرة “الدروس”، لكنها كانت قد صارت، في الواقع، متن العملية التعليمية، وليس هامشه.

حينما تحدثنا مع مراد إبراهيم (اسم مستعار)، يعمل في مجال التدريس منذ 20 عامًا، أكد على أن بعض المدرسين يستحق اللوم، لأنهم يهملون عملهم في المدارس مقابل دخولهم في دوامة الدروس الخاصة، لأنهم يعملون في منظومة لا توفر لهم أجورًا جيدة في ظل أوضاع اقتصادية صعبة منذ تعويم الجنيه في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي.

لا يعمل مراد بتقديم دروس خاصة للطلاب، ويحاول قدر الإمكان أن يقدم لهم في الفصل قواعد اللغة العربية بشكل جيد، وتحديدًا نصوصها الأدبية، ويقول: ” أتحدث مع طلابي حول ضرورة أن الأدب لا يُحفظ، بل يقرأ جيدًا بهدف المتعة. وأن الرواية المقررة عليهم ليست دروسًا منفصلة، بل كتاب يجب أن يقرأ كعمل متصل”.

ويشير إلى خطورة بعض آراء المدرسين التي تترسب في أذهان الطلاب، فعلى الرغم من منع المدرسين من الإدلاء بأي آراء سياسية منذ 30 يونيو 2013، إلا أن هناك آراء متشددة أو تحتوي على تمييز ديني يقولها بعض المدرسين للطلاب.

***

يدرس طلاب الصف الثالث الثانوي السيرة الذاتية لطه حسين (1889-1973) المعنونة بـ “الأيام”، لكن داخل بعض الفصول قد يُقدم أحد المدرسين رأيه الخاص في حياة الرجل.

ويؤكد مراد على أن عدد من زملائه كان يعتبر أن الكاتب الراحل تأثر بما درسه من أساتذة غير مسلمين. كما سمع مراد آراء تشكك في معتقد صاحب الأيام.

كما ترتكز آراء بعض المدرسين على إجراء النيابة لتحقيقات مع الرجل بعد صدور كتابه “الشعر الجاهلي”(1926)، وذلك دون أن يخبروا الصبية في سن المراهقة كيف انتهت الأزمة بحفظ التحقيقات مع طه حسين، وإصدار الكاتب الراحل لنسخة منَقّحة من الكتاب فيما بعد.

***

ويعتبر مراد إبراهيم أن التعليم في مصر، رغم تنوع أنماطه بين الخاص والعام والدولي، إلا أنها ليست إلا تشكيلة لجوهر واحد.

ويحكي مراد أن زميل له كان قد تقدم للتدريس داخل مدرسة من مدارس الثانوية الدولية.

تعتمد إدارة المدرسة على أساليب تعليم متطورة، تشجع على التفكير والابتكار. مع بداية عمله بالتدريس، بدأت الملاحظات توجه إلى المدرس لأنه يميل لحث الطلاب على التفكير، بدلا من الحفظ. كما لاحظ أن المدرسين في هذه المدرسة الدولية يقدموا دروسًا خاصة لطلابها.

 

في ثلاث نقاط خطة لتحسين الأوضاع

في وسط كل التحوّلات الحادثة في التعليم ظَلّ المدرس خارج الحسابات، بل أصبح الطرف الغائب، والمدان على فشل التعليم كذلك، حسبما يؤكد مراد إبراهيم.

وحين سألناه إذا كان لديه رؤية لتطوير التعليم قدمها لنا في ثلاث نقاط؛ أولها أن تكون المرتبات جيدة حتى لا يضطر المدرس للعمل بمهنة أخرى أو أن يقدم لطلابه دروسًا خاصة. فيما تتلخص النقطة الثانية في أن يمنح المدرس فرصة للمشاركة في تطوير مناهج التعليم، أما النقطة الأخيرة فتتركز في كثافة الطلاب داخل الفصل المدرسي.

 

كيف تتوقّع أسئلة الامتحان؟

بخلاف تسريب الامتحانات خلال العام الدراسي قبل الماضي، كانت اختبارات إتمام مرحلة التعليم قبل الجامعي أكبر المحطات الحرجة التي يمر بها طالب مع عائلته، بل تكون أول أزمة تواجهه في حياته، خاصة مع تكريس المجتمع لأهمية شهادة الثانوية العامة. يوضع الطالب تحت وطأة الثقل النفسي بأن ما سيحققه من درجات سيرسم حياته بالكامل مستقبلًا.

ومع استمرار ضغوط الثانوية العامة على حياة المصريين تمكن عدد من المدرسين من توقّع الامتحانات وكان بعضهم لا يعمل بالتدريس من الأساس.. هكذا ولدت أسطورة متوقّعي الامتحانات.

راجت الحكايات عنها بين أولياء الأمور، وأن مذكراتهم الورقية تحتوي على أهم النقاط التي ارتكزت عليها الامتحانات في السنوات السابقة. وكانت هذه المذكرات تُتاح قبل ساعات من الموعد الرسمي للامتحان بوصفها مراجعة الليلة الأخيرة قبل دخول الاختبارات.

كان نظام التوقّع، حسبما يفسر كلا المُدرِّسان، محمود سامي وحسين مراد، يعتمد، قبل سنوات، على مزج بين توليفة ثابتة من الامتحانات كانت الوزارة تختار من بينها.

لكن نظام التوقّع لم يعد فاعلًا بعد حوادث التسريب المتكررة خلال العامين الدراسيين الماضيين، خاصة أن الوزارة بدأت تتحرك بشكل أكثر منهجية في اختيار الامتحانات.

وقد أعلنت وزارة التربية والتعليم والتعليم الفني، في سبتمبر/ أيلول الجاري، عن تطبيق دراسة جديدة ستؤدي إلى زيادة مرتبات العاملين بالوزارة.

وكان الوزير طارق شوقي قد قدمها للرئيس عبد الفتاح السيسي، لكن هذه السياسة لن تنفذ إلا مع بداية العام الدراسي القادم، حسب بيانات صحفية صادرة عن الوزارة

 

 

صورة أرشيفية من مدرسة عبد العزيز جاويش – القاهرة

تصوير: لبنى طارق