اختفت مؤخراً لوحة لعبد الهادي الجزار، الرسم الذي جسد لحظات الإحتشاد الشعبي لتأسيس السد العالي جنوب مصر في ستينيات القرن الماضي لم يعد موجودا، لكنها ليست أول مرة يبدد فيها عمل فني بارز من عهدة الدولة الفنية، لهذا تعاملت كافة الأطراف وكأن هذا الفعل طبيعياً.

يسعى هذا التحقيق الاستقصائي لتقصي الأثر الأخير لهذه اللوحة الشهيرة، ولوحات أخرى ضاعت ولم تظهر في المستودعات، ولا في سوق الفن، ولا حتى في قيود المؤسسات الثقافية. 

اختفت مؤخراً لوحة لعبد الهادي الجزار، الرسم الذي جسد لحظات الإحتشاد الشعبي لتأسيس السد العالي جنوب مصر في ستينيات القرن الماضي لم يعد موجودا، لكنها ليست أول مرة يبدد فيها عمل فني بارز من عهدة الدولة الفنية، لهذا تعاملت كافة الأطراف وكأن هذا الفعل طبيعياً.

يسعى هذا التحقيق الاستقصائي لتقصي الأثر الأخير لهذه اللوحة الشهيرة، ولوحات أخرى ضاعت ولم تظهر في المستودعات، ولا في سوق الفن، ولا حتى في قيود المؤسسات الثقافية. 

طموح الفنان الجامح  

قبل أكثر من 50 عاما حظيت لوحة  السد العالي (1964) بحفاوة حكومية، حيث كانت شعارا للحكومة المصرية خلال مرحلة بناء السد، كما نال عبد الهادي الجزار (1925-1966) وسام الجمهورية للعلوم والفنون وجائزة الدولة التشجيعية في عام إنجازه لها. رسم الجزار عملاقا آلياً، في إشارة لأجواء تأسيس السد الذي سيستغرف بناؤه عشرة سنوات (1960- 1970).

بدأ الفنان السكندري عبد الهادي الجزار حياته الفنية كأحد المهتمين بتجسيد الموروث الشعبي، وعالم الدراويش والفقراء، حيث سبق أن حبس أيام الملك فاروق بسبب لوحة “الكورس الشعبي” (1949)، لكنه كان مشغول في سنواته الأخيرة بتتبع أخبار غزو الفضاء وعالم الماكينة والإنسان الآلي، وبالتعبير عن طموحات إنسان الستينيات العربي، المتفوق في كافة المجالات، كان ذلك قبل هزيمة 1967.

حينما تناول الجزار حدث مثل بناء سد ضخم يساهم في توليد الكهرباء بجنوب مصر، قدم عملية بناء لإنسان إليكتروني عملاق، بما يتوافق مع طموحات المصريين وقتها، ومشروعات ناصر كذلك، وقد برز هذا التماهي في تشابه وجه عملاق الجزار مع ملامح الرئيس المصري الراحل، دون شارب جمال الشهير.

متاهة البيروقراط

حينما تحدث كاتب التحقيق مع السيدة ليلي عفت أرملة عبد الهادي الجزار سألت بشكل عفوي:”لقيتها!؟”.

لم تقم عائلة الفنان الراحل بأية خطوات قانونية، لأن اللوحات تمّ بيعها للدولة بالفعل، لكنها تدافع عن حق الفنان وجمهوره في بقاء هذه اللوحات معروضة بشكل مناسب. 

تؤكد عفت أنها حينما قامت ببيع اللوحات للدولة، بعد عام من رحيل الجزار، كانت تفعل ذلك لتكون الأعمال معروضة في مصر ومتاحة لطلاب الفنون وعموم المصريين كذلك. وتضيف أنها سمعت الكثير من الحكايات عن لوحة السد العالي “قيل لنا إنها موجودة بمخازن وزارة الري في أسوان (جنوب مصر)”، لكنها تذكر أنها كانت بمتحف الفن الحديث، حينما شاركت عفت بندوة نظمها المتحف عام 2012 بمناسبة ذكرى مولد الفنان.

في كتاب “عبد الهادي الجزار فنان الأساطير وعالم الفضاء” يذكر الناقد الراحل صبحي الشاروني أن العمل كان من مقتنيات متحف الفن الحديث، حسبما يؤكد الكتاب الصادر عام 1966. اللافت أن العام نفسه كان قد شهد نقل مقتنيات هذا المتحف لمقرين مؤقتين أولهما فيلا إسماعيل باشا أبو الفتوح بالدقي للمجموعة المصرية، والآخر  متحف الجزيرة للفنون ضم المجموعة الأجنبية.

بينما يؤكد قطاع الفنون التشكيلية التابع لوزارة الثقافة أن اللوحة كانت ضمن مقتنياته بالفعل، لكنها قدمت كهدية للإتحاد الإشتراكي، في العام 1967، حيث كان هذا الحزب السياسي الأوحد ينظم معرضا للفنون بالطابق السفلي من مبناه المطل على نيل القاهرة.

من هنا تبدأ المتاهة البيروقراطية للسد العالي، وهو ما يتطلب إيراد جانب من تاريخ تطور النظام السياسي في مصر.

أثر السياسة

كان من نتائج تحوّل مصر من سياسة الحزب الواحد إلى نظام تعددية حزبية في أواخر السبعينيات أن يسيطر حزب واحد علي الأغلبية بشكل دائم هو الحزب الوطني، لتصبح “السد العالي” مملوكة لهذا الحزب لأكثر من ثلاثين عاماً.

ظلت اللوحة داخل هذا المبني، لأكثر من 50 سنة، لكنها احترقت في 28 يناير/كانون ثاني 2011، حسبما يفترض الناقد الراحل صبحي الشاروني، حيث كتب بجريدة المساء في مارس/أذار 2012، أن اللوحة تمّ حرقها خلال هذه الأحداث.

حينما توجه كاتب التحقيق لهذا المبني وجد أنه صار موقعا لعمل واحدة من شركات المقاولات حيث بدأت مؤخرا عمليات هدم المبني، والتي ستستمر لأربعة أشهر قادمة.

الهدم كان أحدث قرارت الحكومة المصرية بشأن المبنى الذي تغيرت سيناريوهات التعامل معه بشكل متباين خلال السنوات الأربع الماضية، بداية من سيطرة الجيش عليه بحجة تأمين المتحف المصري المجاور له، حيث كان يستخدم كمخزن للمعدات والدبابات العسكرية، ثم بدأت محافظة القاهرة التفاوض مع عدة وزارات حول مصير هذا المبنى وكان هناك مقترح بإعادته للمتحف المصري، بينما جاء مقترح آخر بالإبقاء على المبنى المحترق لكونه يتسم بطراز فريد إذ أسسه أواخر الخمسينيات المعماري المصري محمود رياض، أو أن يكون هناك متحف جديد لتخليد ثورة 2011.

وحينما حاول معدّ هذا التحقيق معرفة مصير اللوحة من محافظة القاهرة لم يقدم الموظفون أية معلومات بشأنها.

من جانبها تستبعد عائلة الجزار فرضية الحرق في الثورة إستنادا لمشاهدات أكثر من مهتم بالفن لهذه اللوحة بأماكن أخرى. ويؤكد الناقد والفنان عز الدين نجيب أنه شاهدها بقصر ثقافة بنها (وسط الدلتا المصرية) في الثمانينيات. كما تؤكد مؤرخة الفن المعاصر كلير ديفز أنها رأتها في معرض استعادي نظمه متحف الفن الحديث عام 2012، وهو الحدث نفسه الذي شاركت به أرملة الجزار. هكذا تبدو حكاية “السد العالي” كأنها حكاية تتعلق بشبح.

شكوك مديرة

حينما تدخل “الفن الحديث” ستلاحظ تواجد رجال الأمن، وسيتبعك أحدهم ليمنعك من التجول، بحجة أن المتحف مغلق.

رغم تواجد أكثر من 18 ألف عمل فني ضمن مقتنياته إلا أن أبواب الفن الحديث لا تفتح  للجمهور إلا لمدة أربع ساعات يومياً، من الخامسة حتى التاسعة. كما لا يسمح بدخول الزوار إلا للبهو الرئيس، بينما بقية القاعات بالطوابق الثلاثة مغلقة وخاوية تماماً. هكذا يبدو المتحف كمخزن سري كبير للفن. متاهة لا يعرف أحد ما يجري بها.

كما شهد هذا المتحف سلسلة من التنقلات بداية من تأسيسه عام 1927 حتى أواخر التسعيينات، حيث نقلت محتوياته أكثر من مرة لعدة أماكن، وقد كانت هذه الإجراءات تتسم بالتساهل الشديد خاصة في حالة إعارة اللوحات وتقديمها كهدايا، إلا أن هذه السياسة لم تعد متبعة، حسبما تؤكد مديرة متحف الفن الحديد ضحى أحمد. تتم متابعة اللوحات المعارة بشكل دائم، كما أن الكشف على اللوحات المعارة لأي جهة يتم بكفاءة عالية، كما صار هناك تشديد بعدم خروج أي لوحة أو إعارتها لأي جهة إلا بموافقة وزير الثقافة،  لكن يبدو أن حكاية السد العالي كانت مختلفة.

تقول مديرة المتحف: “اللوحة قدمت كهدية أواخر السبعينيات للإتحاد الإشتراكي، قام الموظفون القدامى بهذه الخطوة الخاطئة، لماذا يصرّ الجميع على أن أتحمّل أنا المسئولية!؟”. كما تؤكد أن لا تحقيقات تجرى في هذه المسألة، لأنها لم تعد تخص المتحف أو الوزارة، وتضيف موضحة:” كيف أبحث عن اللوحة، بينما تؤكد الوثائق أنها ليست ضمن ممتلكات المتحف والوزارة منذ العام 1967؟”.

تعتبر أحمد أن البحث عن هذه اللوحة مغامرة تتطلب تفتيش أماكن محددة، لم تخبرنا بها،  لكن لديها بعض الشكوك بأن “السد العالي” مخبأة بهذه الأماكن السرية، حيث تقول:”طلبت السماح لي بالدخول لهذه الأماكن للبحث عن السد العالي، لكن لا يسمح لي بذلك”.

لا يغير كلام ضحى من الأمر شيئاً. فقط يؤكد أن الموظفة الكبيرة عاجزة عن التحرك في هذه المتاهة البيروقراطية. وفي الوقت نفسه كان المتحف موقعا لمفاجأة جديدة، حيث تمّ العثور به على لوحة تعود إلى مجموعة من 71 عملا للفنانة الراحلة إنجي أفلاطون، كانت قد اختفت في وقت سابق، وهذه حكاية أخرى من حكايات إخفاء الدولة للفن!

وصية أفلاطون

منذ أواخر الثمانينيات تركت الفنانة إنجي أفلاطون (1924-1989) وصية تطالب فيها بتسليم كافة أعمالها للدولة من أجل تأسيس متحفها الخاص، وقد ضمت هذه التركة 248 لوحة بالألوان المائية، 432 لوحة مرسومة بالزيت، و 220 من اسكتشات الرسامة، وغيرها من مقتنياتها الخاصة، إلى جانب 17 صندوقا من أدوات الرسم الخاصة بها.

بقيت هذه التركة بمجمع 15 مايو للفنون بحلوان، وعندما طالب الورثة بتنفيذ الوصية بدأ التأسيس لمتحف صغير يضم بعض أعمال أفلاطون بقصر أمير طاز الأثري بمنطقة السيدة زينب في عام 2010، خلال هذه الفترة كانت لوحات قليلة للفنانة يتم تداولها بقاعة كريستي في فرنسا، وتعود هذه اللوحات لفترة أواخر الخمسينيات حتى منتصف الستينيات، وهي فترة كانت الفنانة تتردد بها على أوروبا، حيث بيعت لوحة COMPOSITION  SURRÉALISTE  “تركيب سريالي” (1965) ، وقد بيعت في العام 2010 بمبلغ قيمته 20 ألف يورو.

تقول مي عصام، مديرة متحف إنجي أفلاطون: “تنفيذ الوصية كان صعباً، ما تركته أفلاطون كان يحتاج مساحة متحف الفن الحديث مرة ونصف المرة لتعرض اللوحات فقط”.

بدأ نشاط المتحف الصغير في العام 2011، وبعد عام قامت العائلة بمقاضاة الوزارة وعادت لها بقية التركة، حيث تم الإبقاء على ملكية الوزارة للأعمال المعروضة بطاز، لكن كانت هناك كارثة أخرى تتنظر الورثة حيث كانت مجموعة تضم 71 عملا قد اختفت، وحتى الآن لم تظهر منها إلا واحدة فقط!

بينما تنتظر العائلة ظهور بقية الأعمال المختفية نجد أن الوصية لم تنفذ، وإنما ساهم إهمال الوزارة في تعديلها رغم رغبة الفنانة الراحلة وإرادة ورثتها، حيث صارت تركة إنجي موزعة بين مقتنيات بأوروبا، متحف طاز، ومعروضات بيعت بقاعات المزايدات الفنية عن طريق الورثة، وهبات حديثة لكل من متحف الفن الحديث ومكتبة الإسكندرية.

متاهة الفن الحديث  

حكاية وصية أفلاطون كانت من دوافع الفنان عز الدين نجيب لعدم بيع أعمال جديدة للدولة، حيث يقول موضحا :”يقبل الفنان أن تباع لوحته بربع قيمتها المالية، ويبرر لنفسه ذلك بأن هذا حق الأجيال الجديدة في رؤية الأعمال بمتاحف الدولة، لكن هذه المتاحف يسودها عدم الاهتمام والتخزين المدمر”.  

قبل عام قام نجيب بجولة داخل متحف الفن الحديث للبحث عن لوحاته، حيث كان قد باع 35 عملا  على مدار سنوات للمتحف.

لم يوفق الفنان في رحلته، حيث اكتشف اختفاء 15 عملا، وقد عرف وقتها أنها مُعارة لجهات لم يستطع معرفتها، بينما كانت الأعمال المخزنة ضحية لإهمال من نوع آخر، فقد تركت بلا تهوية فحدث تفاعل بين الألوان نتيجة لعيوب في عملية التخزين، خاصة أن المتحف لا يستخدم وسائل تخزين تحمي اللوحات، مثل مراعاة أن تكون درجة الحرارة مناسبة، أو أمور أخرى بديهية مثل عدم ترك الأعمال على أرضية المخازن دون تغليف جيد، كان من نتائج هذا أن اللوحات “صارت مشوهة وبشعة”، حسبما يؤكد الفنان.

لا يعرف عز الدين أماكن لوحاته، لكنه يقول ساخرا:”الإعارة أقرب للتهوية، بدلا من التخزين وآثاره الخطيرة”!

مصنع المستقبل

منذ خمسينيات وستينيات القرن الماضي تحدد وزارة الثقافة ميزانية للاقتناء، حيث جرت العادة أن تقوم لجنة حكومية بشراء بعض الأعمال من معروضات ومشاركات  المعرض العام وغيرها من الأنشطة الرسمية للوزارة، لكن هذا النظام لم يعد مجديا، حسبما يقول الفنان والأستاذ المساعد بقسم الفن بالجامعة الأمريكية في القاهرة شادي النشوقاتي:”طالما لا يوجد هيكل يحمي هذه الأعمال أو نظام تأمين أو أرشفة يقدر الفن فإن فكرة الاقتناء من جانب الدولة ليست واقعية في ظل الظروف الحالية”.

لن يقدم النشوقاتي أي من أعماله لأحد متاحف الدولة، حيث يرى أن  المساحة الوحيدة المفتوحة بمتحف مثل الفن الحديث بائسة، ويضيف موضحا:”لا توجد إضاءة أو ثقافة للعرض، مجرد لوحات معلقة دون مراعاة لأسس جمالية.. كل هذا يعكس حجم إهمال الدولة للفن”.

كما يشير النشوقاتي إلى غياب سياسات تأمين المتاحف، حيث يعيد التذكير بما جرى مع زهرة الخشخاش. كانت لوحة فينسنت فان جوخ المرسومة عام 1886 قد نزعت من إطارها بمتحف محمد محمود خليل وحرمه للفنون في 21 أغسطس/ آب 2010. وبعد التحقيقات تبين أن الحادث جرى أثناء انصراف العاملين من المتحف لأداء صلاة الجمعة، وكاميرات المراقبة لم تكن تعمل، وجاء القرار الوزارة بإغلاق المتحف لتطوير نظام المراقبة وتأمين المعروضات، والتأكيد على اختفاء اللوحة للأبد.

يعتبر شادي أن زيادة أسعار مبيعات اللوحات المصرية خاصة أعمال الرواد مثل حامد ندا وعبد الهادي الجزار وغيرهما بقاعة كريستي للمزايدات قد يكون دافعا لاستمرار عمليات اخفاء اللوحات، ويقول ساخرا: “إغلاق المتاحف يكون أفضل في ظل هذه الظروف”!

كما يؤكد أن وجود أعمال الفنان في السوق لا يمثل حماية، خاصة أن أسعاره تتغير كل فترة، كما أنه لا يلغي دور المتحف.” المتاحف ليست مخازن أو وسيلة لمعرفة الماضي فقط، وإنما مكان يصيغ مستقبل الفن كذلك، عبر تنظيمه لبرامج و دروس ولقاءات” حسبما يوضح النشوقاتي.

أهمية البحث عن الأشباح

اللوحات المختفية لا تظهر عادة بسوق الفن، لكن سيستمر تداول الحكايات عنها، كان أخرها ما يتردد أن “السد العالي” متواجدة بصالة كبار الزوار بمطار القاهرة!

ترى مي عصام، مديرة المعرض الدائم لإنجي أفلاطون، أن عمليات البحث الرسمية ستصل في لحظة ما عند نقطة غامضة تفرضها الأعمال الورقية الحكومية، حيث تقول موضحة: “هذه النقطة تفيد بأن هذه اللوحات تمت إعارتها لجهات أخرى لم تعد موجودة مثل الإتحاد الإشتراكي بما يخلي مسئولية وزارة الثقافة، وتنتهي أي فرصة للعثور على عن هذه اللوحات كذلك”. وهو ما يتطلب تدخل عدة وزرارت وتعاون رئيس الحكومة كذلك، بل عبد الفتاح السيسي نفسه، للتنقيب مرة أخرى داخل هذه المتاهة البيروقراطية بحثا عن حكايات جديدة وقاطعة بشأن هذه اللوحات المختفية مثل “الأشباح”!