تكوّن خلال السنوات الأربع الماضية داخل مدينة السادس من أكتوبر مجتمع سوري صغير. يتمتع هذا المجتمع بخصوصية لافتة، تتنوع بين سكان وأصحاب المحال، وأماكن بيع الأغذية والملابس وورش صيانة وتصليح وغسيل السيارات كذلك، كل ذلك مثل إضافة لمجتمع المدينة البعيد عن العاصمة المصرية حوالي 38 كيلومتراً.

تكوّن خلال السنوات الأربع الماضية داخل مدينة السادس من أكتوبر مجتمع سوري صغير. يتمتع هذا المجتمع بخصوصية لافتة، تتنوع بين سكان وأصحاب المحال، وأماكن بيع الأغذية والملابس وورش صيانة وتصليح وغسيل السيارات كذلك، كل ذلك مثل إضافة لمجتمع المدينة البعيد عن العاصمة المصرية حوالي 38 كيلومتراً.

مع بداية التوافد السوري على المدينة كان الملمح المميز هو رفع علم الثورة السورية، المميزة باللون الأخضر في الأعلي بدلاً من الأحمر..هكذا كان التقارب بين أنصار الثورتين المدخل لبداية العلاقة بين الوافدين الجدد على المدينة الهادئة، لكن مؤخراً بدأ البعض يعلن عن إنحيازات تخالف الصورة النمطية للسوري المؤيد للثورة، المعارض لنظام الأسد، لتلمح داخل بعض المحلات العلم السوري الرسمي أو تسمع الأغاني المؤيدة للأسد مثلاً، ليبدو ذلك كمؤشر على تنوع الهاربين من الجحيم السوري، ليدرك سكان المدينة أن السوريين هنا ليسوا من معسكر واحد، فإذا كانت أغلبيتهم ينتمون إلي “سُنة” هذا البلد العربي المتنوع طائفياً وعرقياً ، إلا أن بعضهم ليس من مؤيدي الثورة، ليكتشف سكان المدينة أن المجتمع السوري يحمل تنويعات داخله.

طوابير تلعن الأسد

في طابور مكتب البريد الصغير بميدان الحصري في مدينة السادس من أكتوبر كان الطابور ممتداً لخارج الباب. هنا تتمّ صرف منحة منظمة “الإغاثة الإسلامية” لبعض السوريين.  

صالة مستطيلة صغيرة الحجم. يقطع هذه المساحة بالتساوي فاصل يجلس خلفه خمسة من الموظفين لا يعمل منهم إلا إثنين فقط، بينما يتكدس الناس في طابورين واحد للسيدات وآخر للرجال. الطابوران ينحرفان داخل الصالة ليتمّ إستغلال كافة المساحة، لكن ذلك لا يكفي لإستيعاب التكدس حيث يمتد كل طابور ليخرج من المكتب حتى الممرات الجانبية من مسجد الحصري الذي أسسْ مكتب البريد داخل مركز الخدمات الملحق به. كل الواقفين بالطابور يمسكون بالبطاقات الصفراء أملا في إمكانية الوصول لشباك الصرف.

يقف أبو شهاب منذ منتصف النهار، حوالي الثانية عشر ظهراً، بينما ساعات عمل مكتب بريد “الحصري” الإضافية تكاد تنقضي بعد دقائق مع إقتراب الساعة من الثالثة، لكنه كان لا يزال يأمل في صرف المنحة.”هذه المرة خاصة بصرف أموال بمناسة قدوم الشتاء”، يقول أبو شهاب، موضحاً أنه إذا لم يصرف المنحة الآن سيتوجه لمكتب آخر “مكتب الحي السابع، القريب من هنا، يعمل حتى الخامسة”.

أول كل شهر يكون موعدهم بهذا المكتب الصغير، لصرف المنحة الشهرية، وفي بعض الأحيان تكون مجمعة لعدة أشهر بحيث تصرف هذه المنحة بشكل نصف سنوي. “أتلقي رسالة على التليفون لتخبرني بضرورة التوجه لمكتب البريد” يقول أبو شهاب، لكن اليوم ينتظر منحة موسمية خاصة بملابس الشتاء تخصصها منظمة “الإغاثة الإسلامية” بالتنسيق مع الأمم المتحدة، وهناك واحدة أخرى تصرف في موسم الصيف.

“لا مش مرتاح هنا طبعا” يقول أبو شهاب، الذي كان يعمل صرافاً بدمشق، والآن يعمل بتجارة الأقمشة. “الحياة هنا غالية، تحتاج لدخل يصل إلى عشرة آلاف جنيه شهرياً. أما في سوريا كان الوضع مختلفا، الحياة كانت أسهل وأرخص”.  يقيم بمدينة السادس من أكتوبر منذ عامين وشهرين، الدقة في وصف فترة التواجد تبيّن صعوبتها، التي تتبدا من كلامه “لا أمل للعودة لسوريا الآن.. بشار هو السبب”. يسعى أبو شهاب للجوء لأوروبا “السويد مثلاً”. فجأة يقاطعه أحد الواقفين في الطابور “بكره نرجع النظام لسوريا وندعسهم كلهم، الله يخرب بيتك يا بشار”.

سيجد الواقف في الطابور أن سب بشار هو السمة الغالبة هنا، أي تأخر يكون هو سببه. من يقف في الطابور منذ الصباح وسيضطر للمجىء مرة أخرى في اليوم التالي، أو الذهاب لمكتب آخر، قبل أن يغادر يلعن الديكتاتور السوري. حينما ينفعل أحدهم في الحديث مع الموظف المصري ستجده لا يغضب من الموظف، الذي يطلب منه الوقوقف في الطابور أو يعتذر عن عدم ورود الاسم في القائمة أمامه، لكنه يغضب لاعنا “الأسد”!

في إنتظار لمّ الشمل

من جانبه بدأ رامي السعيدي (26 عاما) عام 2013 بمصر. رامي جاء من دمشق يوم 1/1، تمهيداً لقدومه أسرته لبلد أكثر أماناً من سوريا، لكنه لم يتمكن حتى الآن من لمّ شمل أسرته الصغيرة.

أسس رامي ومجموعة من الأصدقاء محلاً بمدينة السادس من أكتوبر، كأول فرع بمصر من سلسلة محلاتهم الذي تمّ إغلاقها في سوريا. المحل يقدم الحلوى والمثلجات. “كنا منسجمين مع الشعب، تأقلمنا هنا في أكتوبر، لكن نواجه كل فترة مشلكة رفع أسعار إيجار السكن والمحل، فجأة تجد أن القيمة يتم مضاعفتها”..لهذا  لا يرى أن هناك “مستقبل للعيش هنا، نعمل حتى نعيش، والحياة هنا مكلفة جداً”.

بعد حصوله على البطاقة الصفراء من المفوضية السامية للاجئين تمّكن من إحضار أمه وشقيقته إلى مصر في 1 يونيو/حزيران 2013، لكن الحكومة المصرية قامت في أغسطس/ آب بإستحداث شرطا جديداً لدخول السوريين يلزمهم بالحصول على تأشيرة، نتيجة لذلك لم يتمكن رامي من إحضار والده “قيمة التأشيرة تزيد كل فترة ففي 2013 كانت قيمتها 200 دولار، لكنها وصلت الآن إلى 2400 دولار”. حالياً يسعى رامي لإجراء عملية لمّ الشمل، حيث يقول:” القرار لا يزال محل دراسة من جانب الحكومة المصرية وهو يسمح لأصحاب الإقامة بلمّ شمل أسرتهم، نأمل أن يتم تفعيل هذا الحق حتى نتمكن من إحضار الوالد”.

ما فعله سوريّان في البقية

يكشف رامي عن تغيّر المعاملة بعد عزل الرئيس المصري الأسبق محمد مرسي، حيث يقول موضحا “الموقف القانوني من جانب الجامعات بالنسبة للدراسيين السوريين، مثلا، لم يتغيّر، حيث تتمّ معاملتهم مثل الطلبة المصريين، إلا أن هناك تعقيدات جديدة طرأت، صار مطلوب أوراق أكثر ويعاني الطالب السوري من تعمّد الدوائر الحكومية لتعطيل الإجراءات”. يرجع رامي ذلك لما جرى في إعتصام رابعة العدوية، “ربما يكون هناك من السوريين قد ظهروا في هذا الإعتصام، لا أعرف أذا كان ذلك صحيحا أم لا، لكن لماذا يتم تعميم ذلك على كل السوريين، هناك الكثير يحتاجون للمجىء لهنا من أجل الأمان”.

دلالات صورة الأسد

يلمح رامي، بين الحين والآخر أعلام وصور تعبر عن إنحيازت سياسية لبعض السوريين هنا لما يجرى في التركيبة المعقدة للصراع السوري، ويؤكد أنهم نسبة قليلة لأن الناس قد “ملّت من الصراع السوري”، ويوضح:”لست مع بشار أو المعارضة. لو وضعت العلم، هذا في النهاية علم بلدي، إما إذا علّقت صورة بشار الأسد بالمحل، مثلا، فإن ذلك سيكون جارحاً للعديد من السوريين، خاصة أن هناك ناس فقدوا أقربائهم في الصراع بسوريا، من مات له شهيداً لن يقبل أن يري صورة للأسد هنا حتى لو كنت أحب بشار مثلا. لا أريد أن أسبب لهؤلاء أي ضيق أو ألم.حتى أن علم الثورة لا أضعه هنا.. أنا ما ني طالع حتى أفكر في السياسة ..أنا طالع عشان أعيش”.

من ناحية أخرى لا يمكن الوصول لرقم دقيق للتواجد السوري في مصر، فحسب مؤشرات المفوضية السامية لشئون اللاجئين، التابعة للأمم المتحدة، يصل تعداد السوريين المسجلين هذا الشهر، أي ديسمبر/كانون أول 2014، إلى 150 ألف لاجئ، لكن هناك نسبة كبيرة لم تقم بالتسجيل لدى المفوضية الدولية (التقديرات غير الرسمية تذهب لكون التعداد يتراوح بين 600 إلى 900 ألفا). كما أنها أعلنت  مطلع الشهر الجاري عن حاجتها لدعم دولي عاجل قيمته 64 مليون دولار لإغاثة 1.7 مليون لاجئ سوري، وقد تم بالفعل تخفيض قيمة القسائم الغذائية الممنوحة للنصف حسبما يؤكد اللاجئ السوري رامي السعيدي، حيث يقول:” كانت القسيمة تسمح بشراء مشتريات قيمتها 200 جنيهاً من سلسلة محلات كارفور، لكن قسائم هذا الشهر كانت بقيمة 100 جنيها فقط”!

العودة بعد 100عام

كان “نور” لحاما في سوريا، بحمص تحديداً، وهو الآن جزار في السادس من أكتوبر. يرى أنه سيبقى هنا “في المستقبل القريب سأظل بمصر، الأوضاع بسوريا لا تخبر بأن هناك إمكانية للعودة”. الحياة هنا جيدة، أسس محلاً وأصبح لديه زبائن، وإن كان لا يزال يقدم اللحوم بالطريقة عمله بحمص، حيث يذبح الخراف أكثر من الأبقار، والكباب هو الكفتة المصرية، بينما “الشفقات” هي الكباب المصري. يعود نور للحديث عن سوريا،  ويوضح ” الطرفان اللذان كان يتصارعان”، ثم يتوقف قليلاً ليعقب مصححا كلامه : “صاروا أطرافا.. ولا أمل أن تهدأ الأمور أو أن يحدث الاستقرار”. لا يعتبر نور نفسه محسوبا على طرف بعينه في الحرب السورية الحادثة الآن “حاليا أنا لست مع أي طرف. كنّا نريد التغيير، ليس بمفهوم سياسي، ولكن من أجل حياة أفضل”، لكنه خلال حديثنا القصير كرر أكثر من مرة تساؤل واحد ” أين المعارضة السورية؟”، في إشارة لإنحياز سابق للحام السوري!

جاء نور من منطقة تقع جنوب منطقة “الجزيرة”، التي يسيطر عليها حالياً تنظيم “دولة الخلافة”، والممتدة حتى الحدود العراقية والتركية،  ويقول “تحتوي هذه المنطقة على العديد من الإثنيات مثل الآشوريين، الأكراد، والعرب، لكن كل هذا اختفى الآن، لم يعد يظهر في الصورة إلا داعش”. كما يعتبر أن التغيير يأخذ وقتا، حيث يتوقع أن سوريا أمامهم سنوات لتكون بلداً مستقراً :”ليس أقل من 100 سنة حتى تتغير الأنظمة في العالم العربي. أنظمة ما بتحاول تصلح حالها، بتضل تمّد بوجودها”. لم يتخل نور عن فكرة العودة، رغم إدراكه بأنه “لا أمل لحلّ الأمور”، ثم يكرر “أين المعارضة السورية؟!”.

هارب من الدم

قبل أربع سنوات جاء علي إلى مصر من دمشق. “كان عمري وقت إندلاع الأحداث 19 عاماً، وكنت مطلوباً للجيش”. كان علي يتحدث معي وهو يعلق خلفه العلم السوري بالألوان المميزة لأنصار النظام السوري بألوانه الأحمر، الأبيض والأسود، ويقول: “لو كنت بقيت كنت سأدخل الجيش إما سأقتِل أو أقتَل”، ثم يشير إلى رقبته بيده، ويقول موضحاً “سيصير هناك دم”. لم يسع علي لتسجيل نفسه ضمن قوائم مفوضية الأمم المتحدة، منذ مجيئه وهو يعمل بمحل صيانة الإليكتروينات “صاحب المحل عراقي يعاملني بشكل جيد، بل ويعطيني أكثر من معاشي”. يؤكد أنه لا يعاني من وجود مشاكل “مبسوط هنا، مهتم بأكل عيشي، وغير مشغول بما يحدث هناك. أنا مطمئن لأوضاع أهلي بالشام”.