في أعقاب الضجة التي أثيرت مؤخرا حول النقص الحاد في الأدوية، والمستلزمات الطبية بالمستشفيات، بعد ارتفاع سعر صرف الدولار، يتذكر المصريون جملة شهيرة في فيلم “حياة أو موت” الذي أنتج عام 1954. تتردد الجملة التحذيرية عبر الإذاعة لإنقاذ مريض تتعرض حياته لخطر الموت: “إلى أحمد إبراهيم القاطن بدير النحاس، لا تشرب الدواء الذي أرسلت ابنتك في طلبه… الدواء فيه سم قاتل”.

في أعقاب الضجة التي أثيرت مؤخرا حول النقص الحاد في الأدوية، والمستلزمات الطبية بالمستشفيات، بعد ارتفاع سعر صرف الدولار، يتذكر المصريون جملة شهيرة في فيلم “حياة أو موت” الذي أنتج عام 1954. تتردد الجملة التحذيرية عبر الإذاعة لإنقاذ مريض تتعرض حياته لخطر الموت: “إلى أحمد إبراهيم القاطن بدير النحاس، لا تشرب الدواء الذي أرسلت ابنتك في طلبه… الدواء فيه سم قاتل”.

بعد مرور أكثر من 60 عاما على هذا الفيلم، الذي أنتج في مرحلة تتخذ فيها مصر وجهة جديدة، يشعر الكثير من المصريين أن المنظومة الصحية بأكملها فيها “سم قاتل”، ولا يحتاجون لتحذيرهم من مخاطره عبر الإذاعة مثلما حدث في الفيلم السينمائي الشهير، لأنه بات واقعا يعيشونه ويرون ضحاياه تتساقط بينهم، ومن حولهم كل يوم.

وهناك مخاوف من تصاعد أعداد الضحايا مع ارتفاع معدلات العجز في المستلزمات الطبية، واختفاء بعض الأدوية من الصيدليات، في أعقاب تعويم الجنيه، وارتفاع سعر الدولار لمستويات غير مسبوقة في البنوك.

ورصدت الدولة في موازنة 2016/2017 مبلغ 48.9 مليار جنيه مصري للإنفاق على الصحة، وهو ما يعادل 7% من قيمة الإنفاق الحكومي، مقارنة بـ45 مليار جنيه العام السابق بزيادة قدرها 8.9%. لكن قرار الحكومة تعويم الجنيه مؤخرا، وانخفاض الجنيه بما يناهز 50% من قيمته قبل التعويم، ينعكس سلبا على قيمة المبلغ المخصص للصحة في الموازنة، ويخفضه تقريبا إلى النصف.

أجراس الخطر

ودقت نقابة الأطباء -ممثلة في وكيلتها الدكتورة منى مينا- ناقوس الخطر، محذرة من انخفاض المستلزمات الطبية بالمستشفيات إلى النصف، وصدور تعليمات لبعض الأطباء باستخدام “السرنجة” أكثر من مرة لنفس المريض توفيرا للاستهلاك، وهو ما يعرض حياة المزيد من المصريين إلى الخطر.

وبعد أن كشف الأطباء مدى خطورة الأزمة، تحركت الدولة سريعا لمواجهة الدكتورة منى مينا. وقال الدكتور خالد مجاهد، المتحدث باسم وزارة الصحة، إن الوزارة ستتخذ الإجراء القانوني المناسب ضد وكيلة نقابة الأطباء.

وأمهلت جامعة القاهرة النقابة 48 ساعة لتأديب مينا. وشن إعلاميون محسوبون على النظام الحاكم، وعلى رأسهم مصطفى بكري، وأحمد موسى، وعزمي مجاهد، هجوما ضاريا ضد الطبيبة التي تحظى باحترام ومصداقية عالية بين الأطباء وقطاعات واسعة من المواطنين.

ورد مجلس النقابة بالإجماع، بإصدار بيان يوم 19 نوفمبر 2016 يؤكد فيه صحة ما ذكرته وكيلة النقابة في برنامج “مانشيت” الذي كان يذاع على قنا “العاصمة” الفضائية.

وأشار بيان النقابة إلى أن ما أدلت به الدكتورة منى مينا في البرنامج التلفزيوني “كان حديثا طويلا يناقش مشكلات المنظومة الصحية، ويدق ناقوس الخطر لوجود نقص حقيقي في العديد من أنواع الأدوية والمستلزمات الطبية مما يزيد من معاناة المريض المصري، ويطالب المسئولين بسرعة اتخاذ الإجراءات الواجبة لحل هذه المشكلات”.

ودشن مستخدمون بمواقع التواصل الاجتماعي حملات لمطالبة الدولة بالمسارعة لتوفير الأدوية والمستلزمات الطبية الضرورية لحماية حياة المرضى، بعد أن استشعرت قطاعات من المواطنين فداحة الأزمة.

الموت للجميع

ووفقا للإحصاءات الرسمية يخرج أكثر من 20 ألف شخص جثثا هامدة كل عام بعد دخولهم للعلاج بالمؤسسات الطبية في أرجاء مصر، التي أكدت مصادر عديدة أنها غير شاملة، ولا تعبر بدقة عن الأعداد الحقيقية لضحايا المنظومة الطبية، لأن وزارة الصحة تستثني من الإحصاءات من لقوا حتفهم قبل أو خلال إسعافهم، وكذلك الذين يتم إخراجهم من المستشفى بعد تدهور أحوالهم الصحية، وتأكد الأطباء من اقتراب أجلهم، بحجة أنهم بحاجة إلى فترة راحة قبل إجراء عمليات جراحية، أو لخوف أهليهم من إجراءات خروج الجثة من ثلاجات المستشفيات.

وبينما تتجه أصابع الاتهام في الغالب نحو الإهمال الطبي، والأطباء غير المؤهلين نتيجة النظام التعليمي المتدني، وخاصة أخصائيي التخدير، تتجلى عوامل أخرى تكشف خللا عميقا بمنظومة الصحة، يحول الأطباء أنفسهم إلى ضحايا لتلك المنظومة.

وتصدرت الموقع الإلكتروني لنقابة الأطباء، قصة نشرت حديثا عن الدكتورة داليا محرز (28 عاما) التي لقيت حتفها “نتيجة الإصابة بعدوى قاتلة أثناء عملها في نوفمبر 2015”.

ولا توجد إحصاءات موثوقة بأعداد الضحايا من الأطباء الذي تتعرض حياتهم للتهديد أو الفقدان نتيجة سوء إدارة الصحة، وبسبب مخاطر مهنتهم. ويخوض الأطباء صراعا مريرا منذ أعوام مع الدولة من أجل تحسين أجورهم، ورفع بدل العدوى من 19 جنيها (قرابة 1 دولار، شهريا)، إلى 1000 جنيه (حوالي 55 دولارا).

ووسط تدني مستويات الأجور التي يحصل عليها الأطباء من عملهم بالمستشفيات الحكومية والتعليمية التي تخدم الشريحة الأكبر من المصريين، وشعورهم بالظلم، بما يؤثر على جودة عملهم وإتقانهم له، ومع تراجع أعداد الأسرة بالمستشفيات، تتزايد أعداد الوفيات في المستشفيات.

وتشير آخر إحصائيات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، في “الكتاب الإحصائي السنوي” لعام 2016، إلى تراجع أعداد الأسرة بصورة كبيرة رغم تزايد السكان، حيث كان إجمالي عدد الأسرة في عام 2003 يبلغ 145,703 سرير، وكان عدد السكان حينها قرابة 68 مليون نسمة، انخفض إلى 124,300 سرير فيما بلغ عدد السكان نحو 90 مليون نسمة.

ومع انخفاض عدد الأسرة، وتدني نسبة الأطباء مقارنة بالمواطنين، ترتفع أعداد ضحايا المنظومة الصحية وفقا للإحصائيات ذاتها: في عام 2010 دخل 2,152,799 مواطن للعلاج، توفى منهم 22,148 شخصا، ودخل عدد أقل في عام 2012 وهو 2,037,039 فارق الحياة منهم 26,300 بزيادة تفوق 4000 ضحية.

سياسات الدولة

ويرجع الدكتور عمرو الشورى، عضو مجلس إدارة نقابة الأطباء، سبب الانتكاسات التي تتعرض لها المنظومة إلى ” الفساد، وسياسات الحكومة من الإنفاق علي الصحة، وتوزيع هذا الإنفاق الحكومي وأولوياته، ونقص وسوء توزيع العمالة الطبية، وعدم وجود نظام رقابي”.

ويقول الشورى إن النقابة “تضمن كفاءة الأطباء من خلال إصدار تراخيص مزاولة المهنة، ولجنة آداب المهنة التي تحاسب المخطئين، وتتعامل النقابة مع المخطئ بالعقاب بداية من اللوم، والإنذار، أو الغرامة، أو سحب ترخيص مزاولة المهنة مؤقتا، وانتهاء بسحب ترخيص مزاولة المهنة للأبد.

وأضاف “في عام 2014 وصل للنقابة حوالي 700 شكوى، وتم التحقيق فيها وأدين حوالي 60 طبيبا، وحفظت باقي الشكاوي لعدم وجود خطأ من قبل الأطباء”، لافتا إلى أن “أطباء التخدير ضحية وهم أكثر المتهمين بالتقصير نتيجة خطورة عملهم، ولكن في معظم الحالات تكون المشكلة مضاعفات للأدوية وليس خطأ طبيب”.

وأوضح أنه “يوجد تصور ورؤية لدي النقابة وكذلك منظمات المجتمع المدني وبعض الأحزاب لتحسين المنظومة الصحية ولكن يتم تجاهلها من قبل السلطة التنفيذية والتشريعية في ظل الحكم الديكتاتوري العسكري” على حد وصفه.

مع تمسك الدولة بأسلوبها المعتاد في معالجة الأزمات، والذي يعتمد على نفي وجود أي مشكلة، والتعامل مع من يكشف تهديدا لحياة المواطنين، على أنه هو التهديد ذاته، يبدو أن آلاف المصريين لم يعودوا يتمتعون بما حظي به “أحمد إبراهيم القاطن بدير النحاس” من فرصة للنجاة، والحصول على زجاجة دواء غير مسمومة.