فات الأوان بالنسبة لسمير (هو اسم مستعار نزولا عند رغبة عائلته) ذي الأربعين حولا فيما يخص الوقاية. و ما يجدر التنويه به هو ما يعانيه سمير ومن مثله من مدمنين في غياب الرعاية الطبية فهي أكثر ما يحتاج إليه المدمنون على المخدرات في الجزائر.
فعلا، فقد تحولت حياة سمير ومعه عائلته إلى جحيم. صرخة هذا الشاب الذي يتعاطى المخدرات منذ سن العشرين رغم محاولات عائلته لتخليصه من إدمانه. لم تجد هذه المحاولات نفعا. نعم، فالحصول على سرير في مثل تلك المصحّات على قّلتها يتطلب صبرا شديدا فالطلب الكثيف عليها يجبر الأطباء على التعامل مع الحالات الطارئة فقط. و هذا ما يجعل انتكاسة المدمنين جد سريعة و كأنهم لم يتلقوا أي علاج. وإذ لم تتوان عائلة سمير في بدايات إدمانه في أن تُفعّل شبكة علاقاتها من أجل أن تضمن له أمكنة بمصحات إزالة السموم، لم يعد أملها يقتصر سوى على العمل على استقرار حالته و عدم تدهورها أكثر.
مكث سمير بمستشفى الشراقة غرب العاصمة الجزائر بضع أسابيع وهناك قارب على التعافي والرجوع الى حياته الطبيعية و رجع الأمل إلى عائلته في أن تراه يوما يعود كما كان تلميذا نجيبا ورياضيا ناجحا وهاويا لحياة البحر. كان ذلك قبل أن تتشتت العائلة بفعل الظروف الأمنية الصعبة التي مرّت بها البلاد و التهديدات التي أبعدت سمير عن والديه لفترة من الزمن. لكن بسبب قلة الأسرّة بالمشفى، حسب قول أمه، اضطر سمير إلى ترك مكانه لحالة طارئة اخرى وأُخرج من المستشفى رغم أنه لم يتعاف تماما. إذ لم يكن بإمكان الأطباء تقديم المزيد من العون في ظل الأوضاع التي يعملون بها و عدد المدمنين المتزايد و المحتاج إلى الرعاية.
لم يكتمل حلم سمير وعائلته بالتعافي حيث انتكس بسرعة فور خروجه من مصحة الشراقة. وتمّت إعادته إلى مستشفى البليدة حيث الدخول أسهل نوعا ما من مستشفى الشراقة حسب تقدير و تجربة عائلته. و ظل يتردد على هذا المستشفى و مستشفيات أخرى كلما اشتد به “المرض” وضاق حال عائلته به إثر النوبات الحادة و الاضطرابات التي تصيبه. وتقول والدته أنها إذ تلجأ به في كل مرة إلى المستشفى من أجل إعادته إلى وضع مستقر، لا تكون ضامنة لقبوله بسبب نقص الأماكن.
” إنها لمعجزة أنه لا يزال على قيد الحياة“
تغيرت حياة عائلة سمير بتغير أوضاع البلد وتغيرت حياة إخوته ومن حوله من أصدقاء لكنه لا يزال هو يعيش في عالمه الجنوني و غارقا في وسط المخدرات اللئيم. ” إنها لمعجزة أنه لا يزال على قيد الحياة بالنظر إلى المخاطر التي عرّض نفسه لها و الإرهاق الذي أصاب جسده” تتأسف والدته. وإذ تتكلم هذه الأخيرة بشيء من الدهشة لتحكم سمير في عنفوانه اتّجاه أفراد عائلته وهو تحت وطأة المخدر، يقول الدكتور محمد حداد، الأخصائي النفساني بمستشفى مصطفى باشا الواقع وسط العاصمة الجزائر، عن علاقة الادمان بالعنف، أن “درجات العنف تتوقّف على شخصية المريض وعوامل اخرى (انظر الى الحوار) ولكنه من المستحيل أن يتحكم المريض في نفسه إذا وصل به الحال إلى درجة الذّهان السّام ( فارماكو بسيكوز) وهو أقصى حالات الاضطراب التي يعانيها المدمنون لدى تعاطيهم للمخدرات. ” ربما لم يصل سمير إلى هذه الحالة وهو الشي الوحيد الذي يبرر انعدام العنف لديه إذا سلّمنا بقول أمه“، يضيف ذات الطبيب.
مرّت سنوات عديدة و سمير يتنقّل من مستشفى إلى آخر كلما اضطرت حالته عائلته إلى ذلك. تدهورت حالة بدنه و حالة والدته النفسية تباعا فلم يكن قبوله في المصحة بالأمر السهل، فقد كان اللجوء إلى وساطات أمرا شبه ضروري من أجل ذلك و التمتع ببعض الأيام من الاستقرار و الهدوء. و لكن أم سمير بقيت تكافح من أجل ابنها و من أجل توفير الرعاية الطبية اللازمة له. هذا و إن كانت تتوقف بتوقف مفعول الواسطة و كان سمير يجد نفسه مجددا في الشارع بحثا عما يخفف ألمه. ” لم يبق لي سوى مواصلة رعايته في البيت. لم أعد قادرة على تحمل الإحراج الذي يسببه لي البحث عن وساطات كما أن التّنقل به من مدينة إلى أخرى أمر خطير فقد تفادينا كثيرا من الحوادث بسبب حالة سمير العصبية و التي تفقد أخاه التركيز لدى قيادته لسيارة العائلة“، تروي أم سمير.
تتوفر الجزائر حسب الدكتور حداد على مركزين اثنين لإزالة السموم هما مركز البليدة (50 كلم جنوب العاصمة الجزائر) و مركز سيدي الشحمي بوهران (400 كلم غرب الجزائر العاصمة). يتردد على هذين المركزين مئات المرضى من كل مناطق البلد التي لا تتوفر على مصحات تلبي حاجة العلاج من الإدمان على المخدرات. و يعزي الدكتور حداد هذا النقص إلى عدد الأخصائيين النفسانيين القليل بالمستشفيات مقدرا عددهم بطبيب لكل 100.000 نسمة. ” لست متأكدا من فعالية المراكز الأخرى إن وجدت فحسب علمي ليس هناك إلا مركزي البليدة و سيدي الشحمي لإزالة السموم. وهذا لنقص الأخصائيين الممارسين“، يؤكد الدكتور حداد.
مرّت سنوات على محاولات أم سمير إنقاذه مما هو فيه و لم تترك مركزا صحيا –
وما أقل هذه المراكز – إلا و أخذته إليه، في الجزائر العاصمة مقر سكناها، البليدة و كذلك تيزي وزو (100 كلم شرق العاصمة الجزائر).
أنشأت مؤخرا بعض المراكز الوسيطة لعلاج الادمان تتلخص مهمتها الوقاية والتحسيس والتوعية، متابعة المدمنين الطبية وكذلك إعادة تأهيلهم المهنيّ و إدماجهم في المجتمع. بعض هذه المراكز لم يدخل حيز الخدمة بعد و بعضها مهدّد بالغلق لأسباب إدارية أخرى متعلقة بنقص الأخصائيين. هي في كل الأحوال لا تكفي لتلبية الطلب المتزايد على خدماتها.
لم يرتد سمير أيّ مشفى منذ قرابة العامين و هو يطلق العنان لجنونه داخل المنزل. إذ لم يبق إلا القليل من أفراد عائلته بجواره وبجوار امه التي لا تزال تقاسي من ويلات إدمانه. إن حالته تسبب التعاسة و عدم الاستقرار مما جعل إخوته أخواته يهجرون المنزل. لا أحد بإمكانه التّحكّم في تصرفاته أو تحملها، تقول أمه. عبء ثقيل تتحمّله أم سمير لوحدها اليوم. “إن وجود أمه هو ما يحفظه من التشرد. و هو مصيره المحتوم إن هي فارقته“، يختم الطبيب محمد حداد.