استُهلّ نص ميثاق أخلاقيات التربية الوطنية بهذه العبارة: “غياب الأخلاق كان سبب تراجع الحضارات وزوالها“. وضع هذا الميثاق بعد صدامات طويلة بين أعضاء الأسرة التربوية من وزارة و نقابات عمال التربية و منظمات أولياء التلاميذ كانت تغذيها حسابات سياسوية ضيقة لا تفوّت أي فرصة لتعطيل عملية إصلاح المنظومة التربوية التي بدأت عام 2000 بتنصيب اللجنة التي عرفت باسم “بن زاغو” رئيسها المختص في الرياضيات والذي كان يرأس جامعة الجزائر و هي لجنة مكونة من بيداغوجيين و باحثين و ممثلين عن المجتمع المدني.

فعلا، فقد تسببت هذه البلبلة في زعزعة  المدرسة الجزائرية وإبطال التلاميذ عن الدراسة لفترات طويلة بسبب الإضرابات المتعددة إلى أن أصبح التفاهم والتحاور بين الوزارة والشركاء الاجتماعيين في أحد أوقاتها شبه مستحيل. فمن إضرابات عمال التربية من معلمين و أساتذة و مؤطرين بمختلف أسلاكهم و التي كانت مشروعة في بعض مطالبها كزيادة الأجور و تحسين ظروف العمل، أُخرج التلاميذ إلى الشارع للضغط على وزارة التربية من أجل إعادة النظر في المناهج و المضامين. كان هذا في عهد الوزير بوبكر بن بوزيد الذي أشرف على الجزء الأول من الإصلاحات المقررة من طرف لجنة بن زاغو والتي شرع في تنفيذها عام 2003 و لم تحقق كل أهدافها لأسباب موضوعية و أخرى أكبر من إرادة المشرفين على العملية الاصلاحية. نذكر منها بالإضافة إلى عدم الاستقرار، المقاومة التي أبداها جزء كبير من المعلمين و الأساتذة الرافضين لبذل مجهود أكبر لأن المناهج الجديدة تدعوهم لتجديد معلوماتهم باستمرار عكس طريقة التلقين المعتمدة من قبل و التي وطّنتهم على نوع من الراحة و الخمول الفكري، و كذلك نقص الهياكل القاعدية إذ و بالرغم من رصد أموال طائلة من أجل بناء المدارس والمتوسطات و الثانويات عرفت المشاريع تأخرا كبيرا أثر في سيرورة الاصلاح كون المناهج الجديدة تتطلب عددا قليلا من التلاميذ في الحجرة الواحدة لتسهيل استيعاب المضامين المقررة.

وزادت حدة السب والاتهام منذ تعيين الباحثة في علم الاجتماع و اللسانيات و العضوة في لجنة بن زاغو السيدة نورية بن غبريط على رأس وزارة التربية منتصف عام 2014 و طالتها حملة شرسة من الانتقادات والتهكمات بسبب عدم إتقانها للغة العربية و هي اللغة الرسمية للدولة و أصبحت موضوع سخرية البعثيين و الاسلاميين الذين يستغلون كل المنابر المتاحة لهم من أجل ضربها و لم تسلم حتى كرامتها الشخصية إذ شُكّكوا في أصولها المسلمة و هي حفيدة مؤسس مسجد باريس الشيخ قدور بن غبريط. ولعل أشهر قول “عُوقبت” به هو “افتجأت” بدل “تفاجأت” في تعبيرها عن المفاجأة. تعبير أصبح “فيروسيا” عبر مواقع التواصل الاجتماعي مضخّما الصعوبة التي تواجهها في التكلّم باللغة العربية بصورة كاريكاتورية. و لم يسلم القطاع في ظل وزارة بن غبريط من الاحتجاجات (اضرابات، وقفات أمام مقر الوزارة، صخب إعلامي لأسباب واهية في أغلب الأحيان).

و إذ كان عدم تحكّمها في اللغة العربية عذر المشككين وحجّتهم في التنديد بعدم كفاءة السيدة بن غبريط في تنفيذ الجزء الثاني من الاصلاحات و المطالبة بتنحيتها وإقصائها من المهمة الموكلة إليها، لطالما شكّل تعريب المدرسة  نقطة الخلاف الرئيسية بين المحافظين و التقدّميين الذين يعتبرون اللغة الفرنسية التي ورثها الجزائريون عن آخر حقبة استعمارية أداة أكثر فعالية في تحصيل العلوم و التكنولوجيا والانفتاح على اللغات و الثقافات الأجنبية الأخرى. و إذ ينادي المحافظون من اسلاميين و بعثيين بجعل الانجليزية اللغة الأجنبية الأولى في الجزائر، يتعدى الصراع هذا النقاش التقني و هو بالأساس إيديولوجي يضع المدرسة في حلبة النزاع بين الفرانكفونيين و العروبيين. لم يحسم النزاع بعد لأن مشكل الهوية في الجزائر لم يحسم بعد. و هذا جعل المدرسة عرضة للاستخدام السياسي.

لا إصلاح بدون استقرار

و لعل رد السيدة بن غبريط الأوحد على المناهضين في هذا السياق يعبر عن القلق الذي يعتري القائمين على قطاع التربية بسبب تسييس المدرسة: ” اتركوا المدرسة و شأنها“. و ما يحسب لهذه الوزيرة التكنوقراطية أنها تمكنت بعد حوار عصيب مع أعضاء الجماعة التربوية من وضع ميثاق لأخلاقيات التربية يلزم الأطراف المصادقة عليه من إبعاد المدرسة عن الصراعات الإيديولوجية. و كان هذا في نوفمبر 2015. و إن حد هذا الميثاق من الإضرابات في الفترة الأخيرة، لم يردع المشوشين من تغذية الجدل و النقاشات العقيمة التي ترتكز على سفاسف الأمور. حيث قامت الدنيا ولم تقعد بعدما جاء على لسان الوزيرة أنه من المستحسن لإنجاح العملية التعلمية أن يخاطب المربون التلاميذ في المرحلة التعليمية الأولى باللغة الأم، أي اللغة الدارجة، لكي يسهل عليهم التأقلم واستيعاب اللغة العربية الفصحى تدريجيا. فقد رأى البعض في ذلك محاولة لإلغاء اللغة العربية من البرامج التعليمية. كما رأوا في حذف البسملة من الصفحة الافتتاحية للكتب المدرسية مساسا بالهوية الدينية. و قبل ذلك، أثار تصريح الوزيرة بخصوص محاربة الغش في الامتحانات الرسمية الذي تطرقت فيه إلى الخمار كوسيلة تساعد الغشاشات من المتحجبات على إخفاء وسائل الغش ضجة كبيرة اتهمت من خلالها الوزيرة بضرب الدين الإسلامي.

باختصار، جاء الميثاق لتهدئة الأطراف المتجادلة و إعادة الاستقرار للمدرسة الجزائرية. وفيه: “تثبيت استقرار القطاع الذي يبقى الهدف الأسمى للمجتمع“. فلا اصلاح بلا استقرار كما أكد الميثاق في ظل هذا الجو المشحون بالصدامات على “استعادة المدرسة الجزائرية مصداقيتها وقدسيتها” كما نص أيضا على التالي: “الاستقرار النفسي لأبنائنا التلاميذ والمربين ضروري لتمدرس جيد و لاستكمال البرامج وتحقيق النتائج المرجوة ولا يتأتى ذلك  إلا بخلق جو من الثقة والتآزر بين أعضاء الجماعة التربوية“.

فعلا، يؤكد ميثاق نوفمبر 2015 أنه على المدرسة أن تكون مكانا للعلم فقط و إيصال الإرث المشترك من قيم دينية وإنسانية في أبعادها العربية و الأمازيغية و الاسلامية المكونة للشخصية الجزائرية.  و كذلك على أهمية الاحترام المتبادل بين كل الفاعلين في المنظومة التربوية على احترام الرأي والرأي الآخر وخاصة على إبعاد المدرسة عن كل أساليب التلاعب الأيديولوجي والسياسي وعن كل أساليب العنف. كما يلزم المربيين ب “المساهمة في إبعاد المدرسة عن التأثير السياسي والأيديولوجي والحزبي والامتناع عن كل ميز تجاه أي عضو من الجماعة التربوية” و ” بغرس وتنمية الحس الوطني لدى التلاميذ زيادة على مهامه التعليمية كما يبعث فيهم روح التسامح وفق المبادئ الإسلامية والوطنية“.

و بناء على هذا، و بما أن الميثاق ملزم كذلك لوزارة التربية، يجدر التأكيد مرة أخرى على سطحية الانتقادات التي يرى أصحابها في العملية الاصلاحية محاولة لطمس الهوية العربية الاسلامية من خلال البرامج التعليمية. و دافعت مليكة غريفو المختصة في شؤون التربية عن نورية بن غبريط، الوزيرة المفرنسة والتي تعتبر كأغلب أبناء جيلها ممن تتلمذوا على يد المدرسة الفرنسية و لا يتقنون اللغة العربية، بقولها في لقاء تلفزيوني:” فهل كل من يدافعون عن اللغة العربية يجيدونها ويدركون جوهرها الحضاري والفلسفي؟“.