تاريخ مصر الحديث مليء بالهتافات. تاريخ خروج المصريين وتعبيرهم عن أنفسهم يتجسد في هتافهم. بتأمّلنا للمسار اللغوي للخروج نكتشف تجليات الفكرة الوطنية، ومحاولات اختصارها في عبارات خالدة. الهتافات لا تتحقق إلا في المسيرات والمظاهرات أيضًا وهي لا تكون إلا لأجل حدث سياسي أو اجتماعي كبير.

يتحقق الهتاف بنفي لغته، بتجريد العبارة من معناها أحيانًا لأجل غرض رمزي، وباللعب على دلالاتها الجرس الموسيقي المناسب للحظة الانفعال في أحيان أخرى. كل معاني كلمة “هتف” كما في لسان العرب تتحقق في استخدامها المعاصر. هتف بفلان أي دعاه أو يهتف بفتاة أو سيدة أي ذكر جمالها. ولا يكون الهتاف إلا بالصوت الهادر المنتشر بين الجموع، ولا يستقيم أثره إلا بتذكر جمال شيء  ومحاسنه، لأجل دعوته، ولا يمكن أيضًا الوقوف عند منشأ الهتاف بما هو حالة جماعية لا تقف عند واحد، حتى مع وجود “الهتيفة” محترفي صك الشعارات المسجوعة، لا يُرى أثرهم إلا بالترداد.

لا تكون الهتافات إلا لأجل حدث سياسي أو اجتماعي كبير، ولذلك تكون مواجهة السائرين المتظاهرين مع سلطة مرفوضة، سواء كانت لدولتهم أو لاحتلال أو الاثنين معًا. ومثلما المظاهرات هي الحجر الذي يُلقى في مياه الرتابة السياسية فإن شعاراتها هي تمثلها اللغوي الذي يُقلق اللغة، ويضعها في اختبارها الدلالي، وهو ما نحاول عرضه في السطور القادمة.

يكشف التاريخ الوسيط لمصر أن الهتاف جزء من المعارضة المسجوعة للشعب المصري. يقول ابن إياس في “بدائع الزهور”: “إن حملت الأنفس مالًا تطيق أطلقت الألسن ما لا يليق”. هو موغل في القدم، أقدم من دولة الحداثة المصرية، فبعد أن انفرد عثمان بك البرديسي بحكم مصر بعد جلاء الفرنسيين وفرض ضرائب موجعة على الشعب. هتف الناس “يابرديسي يابرديسي إيش راح تاخد من تفليسي” أثرت ضرائب البرديسي على الحياة اليومية، على القوت والعيش ما استدعى كل الخبرة اللغوية المسجوعة عند المصريين لصياغتها في هتاف.

ومع قيام الثورة العرابية، غاب السجع عن أشهر هتافات المصريين وقتها “عاش كفاح عرابي” وكأن اللحظة التاريخية، وقت حرب التل الكبير لم تترك شيئًا للخيال اللغوي أكثر من مساندة قائد المقاومة العسكرية أحمد عرابي. وربما يكون لسبب آخر هو بُعد المعركة عن مقدرات الحياة اليومية وقتها. كانت  معركة بين “باشا” على جيش وجيوش احتلال. لم يكن من الوعي العام إلا مساندته. ورغم تعدد التأويلات، لكن كلها تصب في فكرة أن كفاح عرابي بعيد.

لكن مع استقرار الاحتلال الإنجليزي، وظهور قائد جديد مثّل صداعًا لجيوش الاحتلال في المنطقة كلها، وهو عزيز المصري.

كان للمصري نصيبًا من الوعي الشعبي في الهتاف الشهير “ياعزيز ياعزيز كبة تاخد الانجليز”، ويخبرنا الهتاف ما لا يخبرنا به التاريخ، فالكبة هي المفردة التي عنت -وقتها- الطاعون.

تميل أكثر المراجع التاريخية إلى أن ذلك الهتاف ظَهَرَ في العقد الأول من القرن العشرين، وقتها لم تكن المقاومة بعد قد شكلت نفسها، بل إن الاحتلال كان في حالة استقرار وتفاهم عميق مع القصر الملكي. يخبر الهتاف الكثير عن الحالة السياسية التي كانت فيها البلد؛ الشعب يريد قوة لامرئية تخلصهم من الإنجليز، لا حركة فاعلة ضدهم.

هكذا، يمكن تتبع مسارات الهتافات وفهمها في سياقها الاجتماعي والسياسي، نقطة التحوّل الأساسية كانت مع ثورة 1919، أي أولى المظاهرات “الحديثة” التي عرفتها مصر.

أول المواجهات بين قطاعات من الشعب وجهاز احتكار العنف (احتلال، شرطة..إلخ) وكيف تحوّلت الهتافات إلى عبارة تلخص طبيعة الحالة الوطنية.

نموت نموت وتحيا مصر

كثيرة هذه الشعارات والهتافات التي أنتجتها ثورة 1919، “يحيا الوفد ولو فيها رفد”، “سعد سعد يحيا سعد”، بعد التأييد الشعبي الواسع لوفد التفاوض الذي وقوده سعد باشا زغلول ونفر من الباشاوات وعلى إثره أخذت الحكومة المصرية في إجراءات تعسفية ضد الطلاب والموظفين بفصلهم من أعمالهم الحكومية. غير أن الهتاف الذي تسيد في مظاهرات 19 هو “نموت نموت وتحيا مصر” ولأول مرة في تاريخ الهتافات المصرية، يحل الوطن كقيمة مطلقة عليا في الهتاف. تجرد الهتاف من ظرفه الاجتماعي السياسي المرحلي إلى التجريد التام، المواطنة في مقابل الوطن. هذه هي ذروة الوطنية في هذه المرحلة، استخدام مفردة “مصر” مطلقة للتعبير عن سؤال الهوية الملح في المجال العام، إعلاء من قيمة القطرية ضد التبعية العثمانية –التي تسيدت خطاب مصطفى كامل قبلها بسنوات وقبل انهيار السلطنة العثمانية.

تحوّلت الوطنية مع هذا الهتاف إلى تقديم التضحيات الكاملة في مقابل “فكرة الوطن” المبهمة الملغزة، واستمر هذا الهتاف مهيمنًا على الشارع المصري حتى عام 1935.

لابد من استعادة المشهد عام 1935 وسياقه السياسي حتى يمكن فهم الهتاف الذي تسيد وهو “الاستقلال التام أو الموت الزؤام”. كانت الحكومة المصرية قد ألغت وقتها دستور 1923 الذي كان ملحمة دستورية، وأُقر بدلًا منه دستور 1930 الذي يمنح الملك سلطات كبيرة. فقد كان يحق له تعيين وعزل الحكومات، وهو ما اعتبر تقليصًا من سلطات الشعب لصالح الملك.

“إن المصريين لا يناسبهم الحكم البرلماني، فلم لا يتركوني أحكم مصر كما أريد لأنني أعرف وأتقن هذه المهمة”.. كان ذلك هو رأي الملك فؤاد في المصريين عند صياغة دستور 1923، والذي كان يضمن قدرًا كبيرًا من السلطة للشعب. وتمت صياغته بواسطة لجنة مكونة من ثلاثين عضوًا، ضمّت ممثلين للأحزاب السياسية والزعامات الشعبية وقادة الحركة الوطنية. وقد ترأس تلك اللجنة عبد الخالق ثروت باشا، وكان ينَصّ ذلك الدستور على أن حكومة مصر “ملكية دستورية” لها برلمان ووزارة.

لم يكن إلغاء الدستور الشرارة التي أطلقت المظاهرات، بل استشارة المندوب السامي، حول هذه المسألة. ففي 9 نوفمبر 1935، وفي أثناء الاجتماع السنوي، الذي يقيمه محافظ لندن في قاعة (الجلد هول) بلندن. قال السير صمويل هور، وزير الخارجية البريطاني، كانت نصحيتنا ضد إعادة دستوري 23 و30 لأن الأول ظَهَرَ أنه غير صالح للعمل به، ولأن الثاني ضد رغبة الأمة بالإجماع. وقد كَشَفَ هذا التصريح عن أن الحكومة المصرية استشارت إنجلترا، وأن الأخيرة طلبت عدم عودة الدستوريَيْن، وهو ما يشكل تدخلًا في شؤون البلاد.

وثارت ثائرة الطلاب وقامت مظاهرات جابت القاهرة كلها، كانت من الكبر والقوة والتأثير ما جعل محمد حسنين هيكل يعدها “الثورة المنسية”، ومن هناك خَرَجَ الهتاف الشهير: “الاستقلال التام أو الموت الزؤام”..الهتاف الفصيح الأول المسجوع في التاريخ المصري الحديث.

المواجهات بين الداخلية/الجنود الإنجليز والمتظاهرين أدت إلى وقوع قتلى من المتظاهرين عند كوبري عباس، وهو ما أشعل شرارة الهتاف، “الاستقلال التام” لأن بريطانيا كانت قد أعلنت عام 1922 “إنهاء الحماية البريطانية على مصر، وأن مصر “دولة مستقلة ذات سيادة”، لكن الأولى احتفظت بحق تأمين مواصلات امبراطوريتها في مصر، وحقها في الدفاع عنها ضد أي اعتداء أو تدخل أجنبي، وحماية المصالح الأجنبية والأقليات فيها، وإبقاء الوضع في السودان على ما هو عليه.

هو استقلال شكلي، حفز القريحة اللغوية على هذه العبارة “الاستقلال التام” أو “الموت الزؤام” أي الموت السريع، ولأن الهتاف معني بالشكل والتأثير أكثر من الدلالة والمعنى، فإن الهتاف انتشر كالموت الذي يطلبه، دون أن يتوقف أحد عند فداحته. كما انتبه الخيال الساخر –لاحقًا- “بيقولوا أو الموت الزؤام.. يبقى موتوا!”.

الهتاف الفصيح يأتي في الوقت الذي مازالت الدولة المصرية تسائل حداثتها/هويتها وارتكنت إلى قناعة خصوصية القطر المصري مع عمقه العربي، مع بدايات استخدام اللغة العربية كواحدة من لغات الدولة الرسمية، وعليه فإن الهتاف خرج من “النخبة المثقفة ابتداء” باللغة المعترف بها، دون أن تحمل خفة الدارجة.

“بالروح بالدم..”

لعل هذا الهتاف، هو من أطولها عمرًا في التاريخ المصري الحديث، فقد صَمَدَ لثلاثة عقود كاملة، انفجر مع انقلاب يوليو 52، ثم صعود جمال عبد الناصر منفردا إلى الحكم، بدأ عامًا “بالروح بالدم هنكمل المشوار” وقت ارتفاع المعنويات الثورية في الشارع المصري وأملًا كبيرًا في التغيير الذي سيحدثه الضباط في الحكم، وهو الذي يفترض أن ثمة طريق للتطور/النهضة، وما إلى ذلك يقتضي التضحية والفداء وبذل الأرواح. هتاف طوباوي كما جرت العادة، لكنه هذه المرة لا يعيد الوطن إلى مفرداته بشكل صريح، ولا الوطنية كمساءلة مستترة لفكرة الهوية. غير أنه مع مرور الأيام، وبعد هزيمة يونيو 1967، انتقل من العام الثوري إلى الخاص الديكتاتوري، فصار “بالروح بالدم نفديك ياجمال”. بقيت فكرة التضحية وبذل الأرواح، واختصرت في شخص جمال عبد الناصر، بما هو الممثل المطلق والأوحد للوطنية المصرية.

الملاحظ أيضًا أن رسوخ الفصحى كلغة رسمية وحيدة للبلاد، بعد أن حسم جمال عبد الناصر جدل ثنائية (الفصحى – العامية) وبعد أن تحوّلت اللغات الرسمية للدولة وصارت واحدة، صار هتافها في هذه المنطقة الرمادية بين الفصحى والعامية، فهو هتاف بكلمات عربية سليمة لا خطأ فيها. لكن “السجع” والإيقاع يستلزم لفظها بالعامية بتسكين الكلمات كلها وإضافة مَد خفيف بعد حرف الجيم في “جمال” وكسر النون في كلمة “نفديك”، هكذا كان الهتاف معبرًا في لفظه واستخدامه عن الحالة السياسية بطريقة ما، فهو بلغة الدولة الرسمية بتأويلها الشعبي، مشابه كثيرًا لخطب جمال عبد الناصر نفسه، وكأن الشعب الهاتف يستعير من قائده لغته لمبايعته المطلقة.

الفداء والهتاف استمر بعد جمال عبد الناصر لفترة وجيزة للغاية، هي حرب أكتوبر، إذ تحوّل إلى “بالروح بالدم نفديك ياسادات”، لكن الأخير لم يطرح نفسه في الوجدان الشعبي زعيمًا مطلق القدرات، كما في حالة جمال عبد الناصر. فلم يشتعل الهتاف إلا ارتباطًا بحرب تاريخية، شُحذت لها العقول والوعي منذ المرحلة الناصرية، لذلك خلق الهتاف ومات ارتباطًا بالحرب والحرب وحدها.

“يسقط يسقط حسني مبارك”

لم تشهد مرحلة مبارك هتافات تنادي باسم مبارك كما فعلت مع ناصر، وجزئيًا مع السادات، حتى بعد محاولة اغتياله في أديس أبابا في منتصف التسعينيات. حاول بعض أنصاره استعادة الهتاف ثانية “بالروح بالدم نفديك يامبارك” لكنه كان – كالمهتوف له- ثقيل على الأذن واللسان، لا يمكن إحياؤه.

على أن ورود اسم مبارك في هتاف شعبي لم يلق صدى في التظاهرات الشعبية إلا بالتنديد به “يسقط يسقط حسني مبارك”. ظهر الهتاف في بدايات التسعينيات أيضًا، خجولًا كحراكه السياسي وقتها. وبدأ يستقر في الخيال اللغوي السياسي وينضج ببطء حتى 2005 وبدايات نشوء الحركات السياسية المقاومة الجديدة وفي المظاهرات الصغيرة في منطقة وسط البلد، حتى الانفجار الكبير في يناير 2011.

لم يستطع حسني مبارك أن يبقى في الوجدان اللغوي الشعبي بما أكثر من “السقوط”. وناله نصيب كبير من الهتافات المسجوعة “حسني مبارك ياجبان ياعميل الأمريكان” وطالت جهازه الأمني “أمن الدولة ياأمن الدولة فين الأمن وفين الدولة”.

 

“الشعب يريد”

القريحة المصرية قادرة على خلق الشعارات التي تعبر عن حالها وحالتها. لا تتمثل الوطنية في الشعارات بذكر الوطن أو أساليب التضحية به فحسب، بل في مقدرات الحياة اليومية، حيث الوعي الشعبي بماهية الوطن بعيدا عن السنتمنتالية اللفظية. لكن مثلما كانت ثورة يناير حدثًا جللًا وجديدًا في قدرته على التغيير، كان هتافه مأخوذًا بحذافيره من ثورة تونس التي أسقطت بن علي. تبناه المتظاهرون المصريون كما هو، على الرغم من أنه ليس مسجوعًا وليس باللغة الدارجة. أرجح الأقوال أن الهتاف الآتي من تونس هو ترجمة عربية بتصرف لهتافات الثورة الثقافية الفرنسية عام 1968، لكنه وجد صداه في مصر ومن ثم إلى البلاد العربية، حتى صارت الهتافات تخرج تنويعًا عليه كما تقول صفحة ويكيبديا.

مصر أيضا خلال الـ18 يوم، نوعت في الهتاف “الشعب يريد إعدام الرئيس”، “الشعب يريد إسقاط الرئيس” وما إلى ذلك.

وقد اعتمدت يناير في هتافاتها الكبرى على اللغة الفصحى غير المسجوعة فبخلاف هذا الهتاف كان “ارحل” باللغة الفصيحة. وكأن المظاهرات المليونية تستخدم اللغة الفصيحة باعتبارها لغة المخاطبات الرسمية للدولة. استخدم المتظاهرون اللغة الفصيحة بشكلٍ واعٍ، وإلا لما كان الهتاف التنويعة الساخرة “ارحل يعني امشي ياللي مابتفهمشي”، وكأن لسان حالهم “نحن نتحدث بلغتك ولا تفهم”.

“تحيا مصر”

انطبق المجال العام على المشغولين به تمامًا، ولم يعد ثمة تحرك في الشارع إلا وينبئ بكارثة دموية، قبل أن تنتهي تحركات الشارع تمامًا. في وقت الركود هذا تبنى النظام المصري ورئيسه عبارة صارت شعارًا شبه رسمي للدولة، وهتافًا في مظاهراتهم المُعدة سلفًا “تحيا مصر” وهي الآتية من التاريخ، من ثورة 1919.

من ناحية أخرى لا يبدو تاريخ الهتافات والشعارات المصرية، مجرد نبش متعسف في التاريخ المصري بقدر ما هو انعكاس لمقدرات الحياة اليومية، واللغة واحدة من أدواتها. ولا أدل على ذلك من مشهد المظاهرة/المواجهة بين بعض فصائل الشعب باعتباره ممثلا عن الوطن كفكرة ملموسة لا مطلقة، أمام قوة الداخلية/الشرطة/الجيش أو أو قطاع أمني يحضر ممثلا للدولة باعتبارها هي في ذاتها الوطن في معناه المطلق. بهذه الطريقة يبدو الهتاف هو السلاح اللغوي في أيدي المتظاهرين لإثبات وطنيتهم، إنها مسابقة خفية بين من أكثر الفئتين تعبيرًا عن الوطن من الآخر.

 

تصوير: صبري خالد