خمسة أعوام تفصل هزيمة يونيو 67 عن خروج فيلم “أغنية على الممر” إلى النور، خمسة أعوام كانت بالكاد تكفي لاستيعاب حجم “الهزيمة” الفعلي، والقدرة على إنتاج عمل فني قادر على التعبير عن متغيراتها السياسية والاجتماعية. إذ يبدو الفيلم منتجا بصريا خارج السياق الدعائي المعتاد في ذلك الوقت للدولة الناصرية، عملا قادرا على التعبير عن بعض آثار الهزيمة دون الوقوع في فخ البروباجندا.

كل تفاصيل الفيلم في وقته، تبشر بموجة جديدة من التعاطي مع الراهن السياسي والاجتماعي؛ فطاقم عمل الفيلم جله من الشباب، كتابة وسيناريو وتمثيلا وإخراجا، حتى أن الفيلم كان من إنتاج “جماعة السينما الجديدة” التي تأسست بعد الهزيمة بعام واحد (1968)، برغبة في إعادة توزيع ميزانية مؤسسة السينما ليحصل الجيل الجديد من السينمائيين على فرصة لعمل أفلامهم. ضمّت الجماعة مخرجين شبان في ذاك الوقت لم يكونوا قد انتهوا من عمل فيلم طويل بعد –أغلبهم أنهى دراسته بالمعهد العالي للسينما في 1967 – وهم محمد راضي، المنسوب له تأسيس “جماعة السينما الجديدة” وعلي عبد الخالق مخرج “أغنية على الممر” والفلسطيني غالب شعث مخرج “الظلال في الجانب الآخر” ورأفت الميهي وداود عبد السيد وأشرف فهمي، والمصورون محمود عبد السميع وسعيد شيمي وسمير فرج، والنقّاد سامي السلاموني وسمير فريد ويوسف شريف رزق الله وآخرون. ولكن كإنتاجات تحت راية الجماعة لم يظهر للنور غير فيلم “أغنية على الممر” و”الظلال في الجانب الآخر” وقد منعت الرقابة عرض الأخير ثم أتاحته بعد فوزه في مهرجان “كارلو فيفاري” في تشيكوسلوفاكيا. مثّل فيلم “أغنية على الممر” إذن حالة جديدة تحاول أن تثبت أقدامها في الرهان الفني والسياسي والاجتماعي في مصر في بداية السبعينيات.

حكاية الفيلم، كانت في الأصل مسرحية للكاتب المسرحي البارز والذي ذاع صيته بعد ذلك –قبل اتهامات التطبيع التي لازمته منذ تسعينات القرن الماضي – علي سالم(1936-2015) صاحب المسرحية التي أيضا دشنت لمجموعة من النجوم الجدد “مدرسة المشاغبين” وأسماء عادل إمام وسعيد صالح ويونس شلبي وأحمد زكي. لكن المسرحية/ الفيلم على عكس “مدرسة المشاغبين” –التي عرضت في أكتوبر 1973-  حملت كل ألم الهزيمة “الهوياتية” في حرب يونيو.

استيعاب الهزيمة مع الجيل الذي تربى في كنف الأبوة الناصرية، ببعدها القومي لم يكن أمرا هينا، خاصة وأنها لم تكن مجرد هزيمة عسكرية على ثقلها، لكنها نهاية لوهم الخطاب الناصري، بنواته الصلبة بالحرب “النهائية” مع العدو الإسرائيلي وإلقائه في البحر كما بشر عبد الناصر. الانهيار المدوي يأتي بعد سنوات قليلة من ضياع فكرة الوحدة العربية بشكلها السياسي –بعد انهيار تجربة الوحدة مع سوريا في 1961- وبقائها أيديولوجيا في فكرة الصراع.

حمل الفيلم في بنائه، هذا الارتباك الهوياتي، الشباب الباقون على قيد الحياة في معركة، منقطعو الصلة بالعالم الخارجي، محاصرون في خندق بين آمال الانتصار، وقلق نقص المعلومات، وأحلام “العودة” الصعبة إلى حيواتهم. حفنة من المجازات تسوق نفسها عبر الشريط السينمائي، حول الحرب بمعناها الحقيقي والرمزي، حول “المصير” الذي ينتظر كل المزيج السابق، إلى عودة “اللاسلكي” واكتشاف الحقيقة التي بشرت بموت سابق على موت الجسد. أليس الارتباك الهوياتي، بعد ضياع الحلم الناصري، مصيره إلى هذه النهاية المدوية؟

الفيلم يتحرك في الزمن من الراهن المأزوم، إلى سياقات وحيوات أبطاله قبل الحرب، كيف اتحدت مساراتهم المتنافرة داخل خندق واحد، تقنية الفلاش باك استخدمت لتزيد من كابوسية المشهد داخل المساحة الضيقة. “الضيق” هو السمة الغالبة على مشاهد الفيلم، كأن نفسا ثقيلا يغطي على أكثر أحداثه إشراقا. الأغاني التي تراوحت بين أغنية عمال الطرق “الفواعلية” كأنها “عدودة” من الصعيد، إلى أغنية “تعيشي ياضحكة مصر” التي تحاولت التشبث بما بقي من الحفاوة الوطنية الناصرية، لكنها أيضا “مهزومة” غير ممتلئة بالفخر الوطني كما في الأغاني الوطنية قبل النكسة “أبكى.. أنزف.. أموت.. وتعيشي يا ضحكة مصر” لا خيار بديل عن الموت. كخيار أخير للهرب إلى الملحمة الوطنية. حتى يأتي “مصير” أحد أبطال الخندق واضع اللحن، تجسيدا حقيقيا للحن.

نهاية الفيلم، بشرت بالحقيقة، لا “عودة” إلى ما مضى، الحرب كانت إيذانا بالبحث عن بديل أقل فداحة من الحلم القومي البعيد، لذلك فإن حرب أكتوبر ورغم اشتراك مصر وسوريا في خوضها، اعتبرتها كل دولة هي انتصار قطري لها.

يعتبر البعض “أغنية على الممر” هو واحدة من نفحات “السينما الجديدة” في مصر التي وصلت ذروتها في نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات مع جيل الواقعية الجديدة، ولعلها هي نقطة الضوء الوحيدة في تجربة جديدة، مغامرة سينمائية شابة.