من اللافت للغاية التشابه بين تعريف البطل في اللغة العربية والإنجليزية، فقاموس “ويبستر” يعرف البطل على أنه “شخص أسطوري خرافي، يكون غالبًا ذا صفات استثنائية، ويتمتع بقوى أو قدرات خارقة، وهو مقاتل لا يُقهر ويتحلَّى بخصال نبيلة وشجاعة نادرة” إنه البطل المستمد من الأسطورة، القادم من حكايات الإلياذة والأوديسة. إنه –بحسب جوزيف كامبل في كتاب “البطل بألف وجه”: “يترك عالم الحياة اليومية ويفتش عن مجال المعجرة ما فوق الطبيعة، فإذا ما تغلب على قوى هائلة، وأحرز نصرا حاسما، عند ذلك يعود من رحلته المليئة بالأسرار مع المقدرة لكي يزود بني البشر من جنسه بالنعم والبركات”. الشرط الأساسي للبطولة إذن هو الانفصال عن اليومي لأجل الاستثنائي، لأجل الرحلة التي يصفها كامبل بأنها دائما تحمل نفس البنية من انفصال لأجل الخارق سواء كانت شعبية أو دينية.

في الثقافة العربية –وبالتالي لغتها- فإن حضور الأسطورة لا يختلف كثيرًا في بنيته وأهدافه وطبيعته، لكن الفارق الأساس يأتي من كون البطل العربي هو الأكثر ارتباطًا بالواقع، حيث أن الخارق هو الدأب والإصرار على المواجهة، نجد أن لسان العرب يعرف البطل على أنه “هو الذي تبطل عنده دماء الأَقران فلا يُدْرَك عنده ثَأْر من قوم.. وقيل هو شُجَاع تَبْطُل جِرَاحته فلا يكتَرِثُ لها ولا تَبْطُل نَجَادته، وقيل: إِنما سُمّي بَطَلاً لأَنه يُبْطِل العظائم بسَيْفه فيُبَهْرجُها، وقيل: سمي بَطَلاً لأَن الأَشدّاءِ يَبْطُلُون عنده” المفارقة اللطيفة هو تشابه فكرة البطل مع “الباطل” و”البطالة” والمفردتين الأخيرتين هما من تفاصيل الواقع اليومي، المرتبطة بالحياة اليومية، البطل إذن هو المتعطل عن اليومي بلا عمل حقيقي سوى صناعة الرمز، القادر على المواجهة. في النهاية فإن الغرض من مغامرته هي الوسائل التي يكتسبها لكي يجدد مجتمعه بكامله. إذ تظهر الحكايات الشعبية فعلة البطل على أنها إنجاز جسدي، فيما الديانات العليا تظهرها كفعل أخلاقي، غير أن مورفولوجيا المغامرة بمعنى الأشخاص المشاركين فيها، والانتصارات المتحققة، تظل قليلة التبدل بصورة مدهشة. عندما لا يظهر هذا العنصر أو ذلك من النموذج البدئي في حكاية بعينها، أو خبر أو طقس من الطقوس أو أسطورة ما، سيكون بشكل ما متضمنا أو موجودا في مكان آخر.

وعلى عكس ما يذهب كامبل الذي يعتبر أن البطل ميت بعد أن تخلى إنسان الحداثة عن الأسطورة والآلهة ليحل محلهما الآلة. فإن بطل “الحداثة” لم يمت، بل إنه لا يختلف كثيرًا عن مثيله في الحكايات الشعبية والأديان والأساطير، إلا باختلاف الأهداف والأغراض. فبدلًا من البُعد عن المجتمع لأجل الخارق، فهو يلتصق أكثر بالمجتمع لأجل المادي. لأن مفهومًا جديدًا حَلّ على الواقع الاجتماعي اسمه “الدولة”. البطل إذن بدلًا من أن يحقق الغرض الإلهي صار يخدم فكرة الدولة أو المفهوم الأكثر تهويما “الوطن”.

والوطن هي المفردة التي تعني بشكل ما الارتباط العاطفي بـ”الدولة القومية”، خلق الهوية بالتأصيل للتميز الجغرافي أو التاريخي أو العرقي، أو كل ذلك معًا. هذا ما يمكن أن نجده عند عبد الرحمن الرافعي (1889-1966) في كتابه “تاريخ الحركة القومية في مصر القديمة” أن الوطنية المصرية، عمرها يزيد عن الخمسة آلاف سنة. وهو ما يلقى هوى عند كثير من سلفيي الفكرة القومية، ليصير “أحمس”، من العصر الفرعوني، بطلًا مقاوما لاحتلال الهكسوس حوالي 1580 قبل الميلاد، على سبيل المثال، بحيث يُسقط عليه مفاهيم حديثة للتأصيل لهذه الفكرة.

وبعيدًا عن التباسات المفاهيم، نحاول رصد تغير مفهوم البطل عبر الوقائع التاريخية ومقارنتها بالمروية الشعبية، وكيف أن الدولة المصرية –ونقصد هنا منذ تأسيسها الحديث على يد محمد علي (1805- 1848) وما بعده- أثرت وتأثرت بخلق البطل، ومن ثم تحويل رمزيته إلى خطاب سياسي وأخلاقي واجتماعي وارتباطه بأولوياتها في حقبتها التاريخية.

تغريبة النديم

كيف تصفي المروية الشعبية التفاصيل الواقعية من حكاية البطل؟

ربما يظهر ذلك جليًا في حكايات عبد الله النديم أول أبطال الدولة الحديثة، كما نقلتها الحكايات، فهو واحد من رجال الثورة العربية، خطيبها على وجه الدقة. تقول الحكاية إن “خطبه ألهبت حماس الجماهير وجعلت قلوبهم تتعاطف مع هوجة عرابي”، ولم يكتف بالخطابة إذ انتقل بعدها إلى المشاركة الفعلية في حرب عرابي ضد الإنجليز “التل الكبير”، كل “الصفات المثالية للبطل” منطبقة عليه.

صُنّعّت “بطولة” عبد الله النديم (1842-1896)  عبر رحلة بدأت من لحظة هروبه من الإنجليز والخديو بعدما رصدوا 1000 جنيه لمَن يرشد عنه. لكن الأهالي، وفي بعض الأحيان الشرطة نفسها، تستروا عليه وأخفوه في بيوتهم عن سلطات الاحتلال. فهو في نظرهم الثائر البطل الذي تصدى بقلمه لخيانة توفيق وديكتاتوريته وظلم الاحتلال وجبروته. الشيخ الخطيب المحارب لم يصنع بطولته تواطؤ الناس فحسب، بل إن تميزها وُجد في قدرته على التخفي وانتحال الشخصيات. إذ كان بارعًا في التنكر وتغيير الصوت واللهجة، حتى أصبحت نوادر اختفائه وهروبه من الحكايات الشعبية. ذروة الأسطورة الحديثة كانت في سنوات هروبه التسع، تواطؤ الشعب مع ملحمته. البطل إذن بدأ مع الاحتلال، متزامنًا أيضًا مع بداية الترسيخ للدولة القومية، ولا أدل على ذلك من العبارة الشهيرة المنسوبة للنديم “مصر للمصريين”.

تغيب النهاية المأساوية للنديم في المرويات الشعبية –نفي ومات في الأسيتانة- إلا في لحظة القبض عليه الناتجة عن خيانة، وكأن حياته لا تعني المروية إلا في ارتباطها بفكرة المقاومة الفردية بالمشاركة الشعبية لا أكثر.

روبن هود الشرقاوي

مع استمرار الاحتلال، استمرت صورة البطل الوطني، هو ذلك القادر على مجابهة قوى الاحتلال والقصر المتواطئ. غير أنه مع طول مدة الاحتلال وتوّرط قطاعات من الأغنياء في “العار الوطني” زادت الحاجة إلى خلق بطل أكثر ملحمية، ليظهر “أدهم الشرقاوي”، لكن ظهور “أسطورته” تزامن مع المَدّ الثوري الجديد (ثورة 1919) وصعود أسئلة “الهوية” مرة ثانية إلى أفق الحياة السياسية. ففي مذكرات الدكتور لويس عوض، حيث نجد أسطورة أدهم أشبه بأسطورة روبين هود في التراث البريطاني ذلك اللص الشريف الذي يسرق من الأغنياء ليُعطي الفقراء ورديفه في مصر هو ذلك الثائر الشعبي على الطغيان وذيوله وعملائه فى أحد أقاليم الدلتا مما يعطى دلالة بمؤازرة أدهم للمظلومين والمقهورين من الواقعين تحت وطأة الظلم، وعلى هذا النحو استقرت أسطورة أدهم الشرقاوى في الوجدان الشعبي. وقد تحوّلت سيرته لمادة درامية ساقها وصاغها الضمير الشعبي ووثق لها لتُشكل في النهاية إغواء سرديًا لكتاب الموال والرواة الشعبيين.

وعلى الرغم من أن “الشرقاوي” في الأوراق الرسمية هو مجرد لص قاتل، فإن هذه الرواية الحكومية –كما في جريدة اللطائف 1921- بعد قتله “المجرم الأكبر الشقي الطاغية أدهم الشرقاوي بعد أن طارده رجال الضبط والبوليس واصطادوه فأراحوا البلد من شره وجرائمه”. الرواية السابقة دعمت البُعد البطولي الوطني، إنه الرجل الذي يتواطأ التوثيق الرسمي ضده ويكرس لتجريمه. فيما هو في العرف الشعبي الذي لا يثق في “الحكومة” الرجل الذي استطاع أن يواجه تنين الدولة الفاسدة وتنانين الإقطاع. عَبَرَ الشرقاوي، في رمزيته، عن الحالة الثورية المتقدة في مصر وقتها: فلاح يشبه المقتولين في دنشواي يثأر على عدة مستويات من قاتليه بقتلهم وتغريمهم.

البطل في موقع السلطة

لأن انقلاب يوليو 1952، حَمَلَ وجهًا جديدًا للشعب المصري، استطاع أن يحقق ما استقر في الوجدان الشعبي لصورة البطل. تخلص من القصر والاحتلال؛ صار جمال عبد الناصر “بطلًا شعبيًا” هو الذي حمل صفات “النديم” الخطابية وجسارة “الشرقاوي” في الأخذ من الأغنياء لأجل الفقراء، ثم ترسخت بطولته بعد عدد من الوقائع: تأميم قناة السويس، عدوان 56 وانتصاره السياسي، وتكريسه للقومية العربية. هو البطل الشعبي بعد أن تغيّر موقعه من معاداة السلطة إلى امتلاكها، أما “المواجهة” فهي مع “عدو” مطلق هو “الغرب/ وقوى الاستعمار”، كما كان يحب أن يسميه في خطبه، ثم صار بعدها “إسرائيل” تحديدًا. انتقال الموقع وتغير مفهوم الوطنية من مواجهة الاحتلال إلى البحث عن “الحليف العربي”، ومن ثم مواجهة الشيطان جعلت البطل في المخيلة الشعبية هو ذلك الذي يتمثل البطل الأكبر، فهو رجل عسكري التحق بالجيش، وخاض أو أراد أن يخوض الحرب ضد إسرائيل، لتعود إلى الرواية الرسمية سيرة الضابط أحمد عبد العزيز وهو من صار يعرف بـ”البطل أحمد عبد العزيز” الذي مات في حرب 48. ويُكرّس لبطولة “عبد المنعم رياض”، هو إذن في عرف يوليو صاحب الزي الكاكي الذي خاض حربًا ذات نزعة فردية ضد إسرائيل. وعليه فإن مشهد التنحي –كما في كتاب الزحف المقدس لشريف يونس- هو محاولة إنقاذ “الوطنية” ممثلة في رجلها الوحيد: جمال عبد الناصر.

ولا أدل على رمزية البطولة في شخصية ناصر من المقال المنشور في الأهرام 30 سبتمبر 2011 –أي بعد ثورة يناير بشهور قليلة- بعنوان ناصر البطل والأسطورة وفيه السطور التالية “تؤكد الأسطورة إمكانية انتصار الإنسان علي تجهم القدر وسطوة الأعداء طالما انحاز إلي المثل الكبرى للحياة كالحق والعدل والمعرفة والحرية. فإذا مات أحد أبطال الإنسانية بعث في سواه، ملهما ومحفزا لمن والاه.. ولم يكن عبد الناصر سوي ذلك الطراز الرفيع من الإنسان، بطلًا حقيقيًا دافع عن حق وطنه وأمته والإنسانية معتصمًا بكرامته وإرادته، ضد هيمنة الغرب، الذي منح نفسه موقع الآلهة ووضع نفسه موضع الأقدار”.

البطولة في مرحلتي السادات ومبارك

كما كانت فترة حكم أنور السادات (1970 -1981) ذات تحولات حادة عن سابقتها، كذلك صورة البطل، فمن ملاحم حرب أكتوبر بما يمكن اعتبارها امتداد لصورة البطل الناصري ببُعد ديني ميتافيزيقي (كما يرُوى عن معجزات أبطال أكتوبر وتضحياتهم الملحمية) إلى خفوت هذا النموذج، ومن ثم زواله التام. هنا ظهرت على السطح النموذج الذي امتد أثره لعقود طويلة، وهو “بطل الخفاء” الذي تسبق حكاياته جملة “من ملفات المخابرات العامة المصرية”.

بدأت هذه الموجة الجديدة على يد الأديب “صالح مرسي” برواية “الصعود إلى الهاوية” عام 1978. الموجة الجديدة تناسب التوجه العام للدولة، وتكريسها لمفهوم جديد للوطنية لا يرتكز على المواجهة العسكرية بقدر ما يستطيع أن يراوغ ويكسب- وهي الصفات التي أشيعت عن السادات- قبل أن يطيب لنفسه أن يكون “بطل الحرب والسلام”.

غير أن التكريس للبطل الجديد لم يتحقق إلا بعدما نشر مرسي روايات “دموع في عيون وقحة” و”رأفت الهجان” فيما تلاها من أعوام. نجحت روايات صالح مرسي في أن تكون من الأعلى مبيعًا وقت خروجها إلى النور. ثم مع تحوّل هذه الروايات إلى أعمال تلفزيونية، لاقت نجاحًا منقطع النظير، العمل المصور كبديل للمروية الشعبية والأسطورة، فها هو البطل يعيد السير على نفس خطوات بناء الأسطورة كما وضع خطوطها جوزيف كامبل، بصفات بشرية استثنائية ويخوض رحلة نهايتها انتصاره، الهجان أو الشوان وقد استطاع أن يخدع إسرائيل. وبالتأكيد فإن الدولة التي تخلت عن المواجهة المباشرة لديها حرب أخرى تحدث في الخفاء بطلها رجال المخابرات.

نجاح هذه الشخصيات كأبطال في المخيلة الشعبية الجائعة إلى بطل –وقت عرض المسلسلات- يكمن في موقعها المراوح بين الواقع حيث جاؤوا والأسطورة التي بناها صالح مرسي، أيضا أتى وقت عرض هذه المسلسلات (بداية الثمانينيات حتى منتصف التسعينيات) في مرحلة ركود سياسي وتدهور اقتصادي كبير، أتت وكأنها الخلاص الوطني لما آلت إليه البلد.

غير أن سبب نجاح الهجان والشوان كأبطال بدا مرتبطًا بظرف ومرحلة تاريخية مثلهما مثل الأبطال الفرعيين في الملاحم. هنا بدأت –في الأدب- تظهر شخصية “أدهم صبري” في سلسلة روايات “رجل المستحيل” للكاتب نبيل فاروق عام 1984، وهي التي استفادت من الإرث الذي تركه صالح مرسي، زارعةٌ في خيالات جيل الثمانينيات ومن بعدهم في مصر صفات بطولة مثالية، فيها الكثير من ملامح شخصية “جيمس بوند” الشهيرة وإن كانت بهوية مصرية. نجحت شخصية أدهم صبري في أن تهيمن على المخيلة الشعبية –الشبابية تحديدًا- باعتبارها النموذج الأكمل للبطل. البطل كرمز، البطل كإنسان مثالي يمكن أن يكون في رمزيته قدوة.

ورغم أنها روايات خيالية، فإن ذلك هو ما ساعدها على أن تكون ذات تأثير أكثر فعالية خاصة مع مداعبات الخيال –التي يقوم بها نبيل فارق- لعقول تواقة إلى بطل وطني بحكايات يقول فاروق إنها حقيقية وقد غير بعض ملامحها لتناسب بطله، ثم تتوالى الأخبار الغامضة لإسقاط الواقع على الخيال، بالبحث عن “الشخصية التي استلهمها نبيل فاروق” ليكون أدهم صبري.

ذلك التكريس الأدبي، حوّل شخصيات واقعية إلى أساطير حيّة، ولا أدل على ذلك من عمر سليمان –ترأس جهاز المخابرات المصرية بين 1993و2011)- الذي تعامل معه الرأي العام باعتباره الرجل الداهية الذي يعمل في الظل، أدهم صبري في الواقع. لكن هذا الخيال الأسطوري الذي استمر لأكثر من ثلاثة عقود، من يبحث في “سلطة” عمر سليمان الحقيقية في الشارع المصري لا يجد أكثر من تمتمات تتناقلها الناس كأنهاالحقيقية الدامغة “عمر سليمان أخطر رجل في مصر”، وهو ما تقوّض تماما مع قيام ثورة يناير 2011.

استعادة البطل القديم

لأن “بطولات” ثورة يناير جماعية، لم تصمد حكاية واحدة من حكايات الثورة لتكون أسطورتها الحديثة، أو لعل يناير هي الموجة التي قضت على الفكرة من أساسها، بما هي مساءلة للهوية الوطنية بكل موروثاتها.

 

تصوير: صبري خالد