عادة ما تُصور المرأة الصعيدية بكونها أمراة ضعيفة، هشة، مقهورة، مغلوبة على أمرها، ولكن المتعمق قليلا يكتشف أنها قوية وذكية لكن  بطريقتها الخاصة، فى فضائها الخاص، هى رئيسة بيتها، يحتاجها الرجل فى تدبير كل أموره، ولكنه قد يهينها فى العلن، عالمها يحمل الكثير من التعقيد والغموض.

تعانى من التعنيف كغيرها من النساء، تُعاقب أحيانا بكونها المخطئ الوحيد في كل شيء، فهى المذنبة فى حالة إنجاب البنات، وفى حالة مرض ابنها، وإذا مات زوجها، كما يُمارس عليها الحرمان من الميراث – وذلك ما أكدته دراسة وزارة العدل، بأن 95% من النساء فى الصعيد محرومات من الميراث-  بجانب عزوفها عن ممارسة السياسية لارتفاع نسبة الأمية أو  لرفض الرجل مشاركتها، هذه الحالة المعقدة ما جعلنا نطرح تساؤلاتنا على سلمى أنور الباحثة فى العلوم الاجتماعية، والحاصلة على ماجستير من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، والكاتبة بعدد من المواقع المصرية والعربية، وهي أيضا روائية وشاعرة، وأصدرت ثلاثة كتب صحفية، أحدثهم كان بعنوان “الصعيد فى بوح نسائه”، الذى أعدته من خلال زياراتها المتعددة لمحافظات الصعيد، حيث أثار دهشتها العديد من الصفات المميزة للمرأة الصعيدية، وكونها أكثر اتصالًا بالطبيعة وقواها الفيزيقية، فهي تعرف أحوال القمر  بالعين، وتعرف شهور السنة القبطية وكيف يؤثر على مزاجيتها، البعض يؤمن بالعفاريت والسحر، تعرف الكثير عن جسدها وخصوبته والحيل الشعبية القديمة، التي تجعل العاقر  حاملا، منهن من تحلم باستكمال دراستها، ومن تطمح في حياة مختلفة، ومنهن من يتزوج زوجها عليها وترضى، ومن تحل مشاكلها بالسحر والعفاريت، وغيرها من الحكايات التى رصدتها سلمى ورأت فيها “امتزاج القسوة بالحلم”.

 

تقول سلمى أنور فى حوارها ل”مراسلون”، أن الكتاب  كان حصيلة زياراتها المتعددة لقرى محافظات الصعيد أسوان، قنا، سوهاج، وأسيوط، حيث قابلت ما يزيد عن 30 سيدة من فئات وأعمار مختلفة، منهن المتعلمة والأمية، وخرجت بالعديد من النتائج من خلال التركيز على قصص تلك النساء.

بدأنا حوارنا معها عن الصورة النمطية الخاصة بالمرأة الصعيدية بأنها أمرآة مقهورة ومغلوبة على أمرها..هل هي صورة واقعية؟

بالتأكيد هناك جزء واقعي  من تلك الصورة، ولكن تلك الصورة ليست كل شيء، فهناك قدر من التعنيف البدنى واللفظى والمعنوى الممارس ضدها، وضد النساء عموماً فى مصر، وهو  موجود بقدر كبير فى البيت البحرى والصعيدى، وليس منقطع عن التركيبة العامة للمجتمع المصري، حيث يوجد ميل إلى الغلظة فى التعامل مع جسد المرأة فى الصعيد، ولكن لا يمكن إغفال إن المرأة الصعيدية تعمل على تطوير نفسها دائماً، وهي في عملية تفاوض مستمرة كى ترفع سقف مكاسبها هى وبناتها فى التعليم والخروج وطريقة الملبس والأكل وغيرها، وهي ليست امراة ضعيفة ولا مقهورة، ولكنها قوية بطريقتها، وفي ظل المعطيات التى تعيش فيها، ودون أن تخرج عن طوع زوجها،  فهى قادرة على أن تكون ناجحة، وعلى تنشئة أولادها حتى فى ظل البيئة الفقيرة للصعيد، كما أنها تحتفظ بموروثها وسط المتغيرات الثقافية المتسارعة، التى من السهل أن تشوه وتطحن التركيبة الثقافية المتعارف عليها، وأيضا على مستوى مختلف فالمرأة الصعيدية قادرة أن تذهب للشيوخ والدجالين، عندما لا تجد طريقة عادية لحل مشاكل أسرتها، فتلجأ لأدوية من الطب الشعبي فى حالة عدم وجود علاج حديث.

وكيف ترين صورة المرأة الصعيدية في الدراما التلفزيونية والسينما ومدى واقعيتها؟

الواقع أكثر  حيوية وفانتازية من الدراما، التي لم  تركز إلا على نماذج معينة من المرأة الصعيدية، ومازلت المسلسلات والأعمال الدرامية  قاهرية الهوى، ولم تفلح في نقل صورة واقعية عن الصعيد، فحتى أن بدا أن هناك تشابها كبيرا بين مجتمع الصعيد في مطلع القرن العشرين ومجتمع الصعيد المعاصر، وأنه ما زال مدافع عن تقاليده وسماته وتراثه، إلا أن الواقع ليس بهذه البساطة، فالقصص الحقيقية أكثر تعقيد وإدهاشا من الدراما، ولكن المسألة تحتاج إلى تعمق ووعي أكثر  بكيفية الحياة الأن في جنوب مصر، وهو ما لا يفعله صناع الأعمال الفنية.

وإذا تحدثنا عن مستوى تعليم الصعيديات؟

هناك حراك بشكل كبير لتعليم النساء فى الصعيد، وإكمال مرحلة ما بعد الدراسة الجامعية، ومعظم الحالات التى قابلتها كن جامعيات، ولكن مازالت مثلا مسألة سفرها للخارج للتعليم غير واردة سوى بالزواج، ويكون سفرها للعمل معه أو استكمال التعليم، فاكتشاف العالم بالنسبة للمرأة عادة يكون من خلال الزواج، أو التعليم فى القاهرة، حيث قابلت سيدات كبار فى السن، كانوا قد سافروا للعمل بالخارج، وهم مقترنات.

ما هي أبرز التقاليد التى رأيت إنها ما زالت مرتبطة بالمرأة الجنوبية؟

بشكل عام يمكنني القول إن المرأة الصعيدية مازالت محافظة على معظم تقاليديها وتراثها، ويتجلى ذلك في تفاصيل صغيرة، فهى تستخدم في مطبخها أشياء كان يستخدمها الفراعنة، مثل “الزنادة” الفرعونية وهي أداة خشبية تستخدم لتنعيم ثمار البامية من أجل إعداد طبق “الويكة” الصعيدي، وتخبز العيش الشمسى الذى يخُبز منذ قرون، و يرمز للأله آمون الفرعوني، كما تستخدم الطب الشعبي القديم، حيث تمتلك خبرة في استخدام النباتات والأعشاب للتداوى، بجانب طقوسها الخاصة فى الزواج والميلاد والموت، فهى محافظة على الهوية والتراث، وكذلك اعتقادها فى عالم السحر، حيث روت لي العديد من النساء قصصا عن عالم السحر والأعمال السفلية، ونظرة المجتمع للمصابين باضطرابات عقلية وتعامله مع الحسد والأشباح، وكل ذلك يحدث بجانب استخدمها أيضا للتكنولوجيا.

وكيف تصفين المرأة الصعيدية داخل بيتها؟

المرأة الصعيدية هى سيدة دارها، مديرة بيتها وتتحكم فى الموارد، فهى الرئيسة  فى ذلك الفضاء الخاص، بقدر ما يبدو تحركها فى الفضاء العام محدودا ويتوقف على ما يقبله زوجها،

لكنها تظل أمرأة مميزة، قوية، وذكية تعرف محيطها بشكل كبير، ومن خلال هذا الذكاء  تستطيع تحقيق مكاسب كبيرة، وهي محل اعتماد رجلها بالكامل، فهو لا يستطيع إدارة عالمه من غيرها.

من خلال زياراتك لمدن الصعيد.. ما الذي كان الأكثر إدهاشا؟

حكايات العفاريت والأشباح بالتأكيد، التي يتم التعامل معها على إنها جزء طبيعي في الحياة، وكذالك التراث الغنائي المرتبط بظواهر طبيعية مثل الغناء والتطبيل عند احتجاب القمر، بجانب أهازيج الأعراس، والحج، وتوديع الموتى، والتعديد عليهم، ولكن أيضا ينبغي القول أن هذا التراث فى طريقه للإندثار.

برأيك ماذا تحتاج المرأة الصعيدية؟

لا تختلف ظروف المرأة فى الصعيد، عن المرأة فى القاهرة، أوفي الوجه البحرى، فالجميع الأن يتعرض لنفس وسائل الاتصال والتكنولوجيا الحديثة، ويشاهد المسلسلات الهندية والتركية، ويتأثر بطريقتهم فى الملبس وغيرها، فداخل البيت الصعيدى الأنترنت ، ووسائل التواصل الاجتماعية، لذا يمكن القول أن الفروق بين أنماط الحياة تتقلص، ولا يوجد مجتمع مغلق على نفسه تماما، ولكن أيضا يجب القول أنه حنى مع هذه التغيرات، يظل المحرك الأساسي للمرأة هو تربيتها وعادات أهلها، وعادات بيتها، وقريتها، وهى الأقوى تاثيراً من مواقع التواصل والمسلسلات الهندى والتركى، وما تتابعه، فالجوهر لم يمس.

لذا يظل أبرز ما تحتاجه المرأة في الصعيد هو التعليم، هى وأبنائها “ولاد وبنات”،  لأنه فرصتها الوحيدة لتحسين وضعها فى المعادلة الاقتصادية والاجتماعية، لتكون قادرة على العمل فى وظيفة جيد لا يعتبرها الرجل مهينة له، بجانب إن التعليم سيلعب دورا ضروريا في تغير أفكار الرجال فيما يتعلق بسوق العمل، وما يمكن قبوله أو  رفضه، فما تعانيه محافظات الصعيد ومصر بصفة عامة، هو إنخفاض جودة التعليم.

ما هي أبرز النتائج التي يمكنك الحديث عنها بعد تلك الرحلة وهذا الكتاب؟

من أجل معرفة الجنوب وتطويره هناك ضرورة لدراسة ما يسمى ب”الممانعة الثقافية” للمفاهيم والألفاظ الوافدة من الشمال، لماذ يرفض الناس في منطقة معينة مفاهيم معينة أو يقبلون بمفاهيم أخرى، فلم ينجح التلفزيون قاهري الهوى على سبيل المثال أن يغير أفكار في الصعيد إلا بالقدر الذي سمح به الجنوبيون أنفسهم.

فصعيد مصر مجتمع مشحون بالمورثات، والمكونات الثقافية والدينية، بجانب التعقيدات الطبقية والقبلية، تحت قشرة رقيقة من التحضر والتمدين، يحتاج لعمل مستمر من الباحثين، لأن التراث يتآكل ويتقلص مع الوقت .