على بعد عشر دقائق مشي من “مزلقان عين شمس” في واحدة من العمارات الجديدة التي بُنيت بعد الثورة، في الدور الثامن، تعيش أسرة على الحافة من كل شيء؛ فالزوج “جيما ن” من جنوب السودان يعيش في مصر منذ عشر سنوات تقريبا، وزوجته “ميراي” مصرية عاشت وتربت في منطقة ليست ببعيدة عن عين شمس وهي “عزبة النخل”، كلاهما مسيحي، في واحدة من “مفارخ التطرف” المصرية منذ سبعينيات القرن الماضي.
“غيرت ملتي لأجلها” أول كلام جيما عن زوجته، ويبدأ في سرد قصة زواجهما، انطلاقا من حكايته هو. جيما درس في كلية التجارة جامعة عين شمس، هو ابن وحيد لعائلة ميسورة من جنوب السودان، وهو الأمر النادر كما يقول. في الجامعة، كان وحيدا معظم الوقت، إذ كان يواجه واقعا يوميا من السخرية الصامتة في عيون زملائه، والتعليقات السمجة على لون بشرته، ثم العنصرية الدينية من أبناء بشرته. يقول “كنت معظم الوقت لوحدي، لم يكن هناك غيري من جنوب السودان، وقتها كنا مانزال نناضل من أجل الحصول على حقوقنا” لكنه يقول إن السخرية من بشرته كان أقل وطأة عليه من العنصرية السودانية ضده “زملائي السودانيين في الجامعة كانوا يسبونني مع أي حدث سياسي، يسبونني باللون والدين” يضحك جيما؛ إذ أن السودانيين لهم “تقسيمة لونية” تتعالى على من هم “أغمق منهم“!
يواصل حديثه “كل ما كنت أطمح فيه هو أن أنهي دراستي بأقل كم ممكن من المشكلات، إلا أنني تعرفت على ميراي”. تلتقط ميراي طرف الحديث “كنت أستغرب جدا من أدب جيما، وصبره وتجاهله للمزاح السمج من زملاء الكلية، كنت في نفس دفعته، وعرفته من كلام الزملاء “المسيحيين” عنه الاسود الكاثوليكي! كان الجميع يغمز ويلمز في وجوده، وهو كان مهذبا ومنطويا وصامتا، لكن عينيه قالت الكثير عن شاب يعاني من مجرد مروره وسط الناس، فدفعني فضولي إلى التعرف عليه، وهذا ما لا أُقدم عليه عادة، حدثني وعينيه تراقب ماحوله يخشى ما سوف يقال، من تطاول أحدهم عليه بالكلام أو اليد، كان كلامه معي مثل طفل صغير يتعلم الكلام، وقتها لم أرد أن أضحك من لهجته المصرية “المكسرة” حتى لا أجرح شعوره، لكني قلت له “إفيه”: “محتاج كورس تتعلم الكلام المصري” ضحك، كانت ضحكته طيبة، أحببت طيبتها، وطيبته بعد ذلك“.
تكمل ميراي “كنا في السنة الأخيرة في الكلية، أحببنا بعضنا البعض بسرعة، بدأت أتعرف على أشياء كثيرة لها علاقة بجنوب السودان لم أكن أعرفها، وعن عنصريتنا ضد أصحاب البشرة السمراء. أنا كنت أحبهم، أعتقد أن هذا هو تأثير الأفلام الأمريكية عليّ، فأنا أحب “دينزل واشنطون” جدا وأراه وسيما، لم أر ما يراه أهلي على أن السمر ليسوا جميلين“.
يلتقط جيما الحكاية منها “أدين بالفضل لدنزل واشطنون في حب حياتي” يبتسم ويكمل “لكن حياتي تغيرت بسببها، بعد أن كنت أنوي ترك مصر بعد الجامعة، قررت أن أبقى هنا لنتزوج ونؤسس عائلتنا، لكن الأمور لم تكن بهذه البساطة“.
يحكي جيما عن المتاعب التي واجهها لمجرد البحث عن عمل في القاهرة، كان يُرفض لمجرد لون بشرته، عشرات المقابلات لشركات كبيرة وصغيرة رأى في عيون أصحاب العمل والقائمين عليه رفضهم، رغم “مؤهلاته” الجيدة، فهو يجيد اللغتين الإنجليزية والفرنسية، في النهاية وُفّق في العمل بشركة صغيرة لأعمال البناء في عين شمس، ومازال يعمل فيها حتى الآن.
غير أن ما واجهه في العمل، لا يقارن بـ”الإهانة” التي لاقاها من أهل ميراي، الذين قابلوه مقابلة متعالية وأمعنوا في تجريحه حتى كاد أن يترك البيت ويهرب، لولا تدخل ميراي وإصرارها على الزواج منه. تقول ميراي “أمي كانت تقول لي هتتجوزي عبد ليه؟ دخلت معها في جدال كبير عن كلامها الذي يتنافى مع تدينها، واجهتها بعنصريتها فتحججت أخيرا بأنه “ليس أورثوذكسيا“.
غير جيما ملته، فهو “ليس متدينا في كل الأحوال” كما يقول، وتزوجوا في حفلة محدودة، لم يحضر أحد من أهل جيما إلا والدته، وعدد قليل من أهل ميراي، الذين لم يبتسموا ابتسامة واحدة كما يقول الزوجان. لكن الحال تغير كثيرا بعد العشرة والسنين، صار جيما من المقربين إلى أهلها، تقول ميراي “زوجي من أطيب الناس وأجدعهم، وقف مع أبويا في شدة مالية، وتحمل الكثير من سخافات أهلي بصبر، دخل قلبهم، أي نعم بصعوبة لكنه حدث“.
تبدو القصة في مجملها ذات نهاية سعيدة، لكن الواقع يقول عكس ذلك، فإذا كان جيما يعيش حياة هانئة مع زوجته المحبة، فإن تفاصيل يومه ليس كذلك، المضايقات اليومية من الجميع بدءا من الأطفال الذين يسبونه ويجرون، إلى الكبار الذي لا ينتهي غمزهم ولمزهم، “تلقيح كلام” أو تصريحا. غير أن مشكلته الأكبر الآن، مع طفليه. هما أقلية داخل أقلية، لا يكاد يمر يوم دون أن يأتي أحدهما باكيا، من معاملة زملائه العنيفة. يحكي عن واقعة لابنه الأصغر في الصف الأول الابتدائي عندما بدأت حصة الدين الإسلامي وخرج ابنه مع المسيحيين، نظر له المعلم وقال له “وكمان مسيحي، غضب على غضب“.
يقول جيما أنه جاء إلى مصر شابا واعيا لما فيها وماسيواجهه، لكن أطفاله لا يستحقون هذه المعاملة، ويقول “رعبي زاد بعد مقتل جبرائيل، كيف يمكن أن يعيش أولادي هكذا؟“