ليست ليبيا بلداً عربياً استثناء، طالما عليها أن تخوض بين فترة وأخرى حرباً مع عدوها أو مع نفسها، وإن كانت في كلا الحربين تحتفظ بخصوصيتها. فخلال حقبة الاحتلال الإيطالي خاضت حرباً استمرت عشرين سنة، أوجزها الشعراءُ (المحرر: الشعراء الشعبيون) في قصائد شكلت وثيقة مهمة في تاريخ النضال الليبي.

ليست ليبيا بلداً عربياً استثناء، طالما عليها أن تخوض بين فترة وأخرى حرباً مع عدوها أو مع نفسها، وإن كانت في كلا الحربين تحتفظ بخصوصيتها. فخلال حقبة الاحتلال الإيطالي خاضت حرباً استمرت عشرين سنة، أوجزها الشعراءُ (المحرر: الشعراء الشعبيون) في قصائد شكلت وثيقة مهمة في تاريخ النضال الليبي.

ولعل القصيدة الملحمة “ما بي مرض” للشاعر رجب أبو حويش، تُعد الأبرز في هذا المتن. والتي ولدت داخل أسوار معتقل العقيلة، كأحد المعتقلات الجماعية التي تفننت الآلةُ العسكريةُ للاستعمار الفاشستي في تصميمها، لعزل الأهالي عن فرق المجاهدين، منعاً لأي دعم لوجستي، حتى ولو كان بائساً ومحدوداً.

ثمة محاولات عديدة تضمنتها – فيما بعد – مدونةُ الشعر الليبي، بفرعيه (الشعبي والفصيح)، لمحاكاة ملحمة الشاعر رجب أبوحويش، غير أنها تظل في الغالب جد خجولة، مقارنةً بإعجاز الأصل. وعلى الرغم من أن الشعر الشعبي كان أكثر تداولاً وحضوراً في ذاكرة الناس، لكن قصيدة الفصحى بكل أشكالها ما تزال هي الأخرى تسعى وبطموح كبير، لأن يكون لها بصمتها الخاصة في معركة الحياة.

في سنة 1981 عُقد في العاصمة طرابلس مهرجان للشعر العربي، تحت مسمّى (الشعر المقاتل). هذا العنوان الشِّعَار، انطوى على مفارقة، حاولت أن تتحايل – كما يبدو – لأن تكون مجازاً، حتى تنسجم مع صخب إعلام العقيد القذافي، المهووس صوتياً بظاهرة صناعة الشعارات. غير أن المفارقة الأشد غرابةً، أن أجهزة النظام وفرق لجانه الثورية، كانت قبل سنتين تحديداً من إقامة هكذا تظاهرة ثقافية، قد زجّت بمعظم الكتاب الشباب في السجن، بينهم شعراء تائقون، صدرت ضدهم أحكام قضائية بين المؤبد والإعدام.

في مهرجان الشعر المقاتل، شارك شعراء عرب كبار، مثل ممدوح عدوان، مظفر النواب، ونزيه أبوعفش، وشعراء شباب من بلدان عربية، بعضهم يغادر وطنه الأمّ للمرة الأولى.

قبل موعد الافتتاح الرسمي، كانت قد تسربت قائمة الشعراء الليبيين المسجونين داخل أروقة المهرجان، فتحمّس رهط من الشعراء الضيوف، على رأسهم الشاعر الجزائري الشاب، عمر ازراج، لتجميع توقيعات المشاركين، كبادرة تلتمس العفو عن زملائهم المسجونين.

لا شك أن هذه الحماسة التضامنية في حينها كانت أكثر من جريئة، وهي بقدر ما أربكت برنامج المهرجان، سببت حرجاً واستفزازاً للنظام، عبرت عنه حالة استنفار طائشة لأجهزته الأمنية، ولجانه الثورية، وقد انقلب السحر على الساحر.

ما حدث بعد ذلك جراء هذه الفضيحة، أن نظام القذافي لم يعد يقامر مرة أخرى على إقامة هكذا تظاهرات شعرية، وبدا أكثر ارتياباً وتوجساً وهو يضاعف من تضييق الخناق على حركة الشعر، وتقليص فاعليتها إلى أقصى حدّ. حيث شهدت السنوات العشر التالية فقراً مُدقِعاً في صناعة ونشر الكتاب الأدبي ولاسيما الشعري، بعد أن خضعت المطبوعات لرقابة صارمة إلى حد الوسوسة في تأويل النصوص أمنياً.

وحتى تلك الأمسيات الدعائية ، التي كانت تقام تحت مظلة الاحتفال بذكرى أعياد الفاتح من سبتمبر، كانت تقتصر – إلا فيما ندر – على صنف من الشعراء المَدَّاحين، يتألف جمهورها في الغالب من سدنة النظام والمخبرين وأعضاء اللجان الثورية. ويوماً عن يوم، نتج عن هذا الإفراط المتزايد في ضراوة القمع، تهميش وإقصاء، لمعظم ما هو أصيل وحقيقي، ولم يبقَ في المشهد البائس غير بعض المهرجين الذين كانوا يرتزقون عبر تحويل الشعر إلى منابر للتزلّف. وهكذا اتسعت الفجوة بين الشعر ومحبّيه.   

استعدتُ هذه الوقائع وغيرها، في اللحظة نفسها التي كنتُ أتهيأ خلالها لكتابة مقال عن دور الشعر وفاعليته، وكيف يقرأ الشعراء الليبيون، من موقعهم كمبدعين، الأزمة الحالية التي تمرّ بها البلاد. وفي الوقت نفسه كنت أتهيب استخدام عبارات على شاكلة: الشعر في مواجهة الحرب والفوضى، خشية أن أتواطأ مع حماسة الكتابة كفرقعة إعلامية، وأن أجافي من ثم الحقيقة الصادمة كما تلخصها شراسة اللحظة الراهنة.

صحيح ثمة شعراء في ليبيا قد ثابروا، ومازالوا يثابرون من موقعهم كمبدعين على معالجة موضوعة الحرب وما تمخض عنها من فوضى. وكتبوا نصوصاً تتمتع بقدر كبير من الجدة والجرأة والتنوع، بتوقيعات شابة، استأنست بمواقع الانترنت بعد أن توقفت الصحف، وضاق فضاءُ المحافل. لكن قد تُعدّ المسألة أكثر تعقيداً حين تحضر القصيدةُ في غياب المتلقي. ليغدو الشاعر كمن يحرث في الماء طالما هو يقف بمفرده وحيداً في المشهد.

لا شك أن هذه الصورة ستكون لوهلةٍ مدعاةً للسخرية، لتبدو كما لو أنها لقطة منتزعة من رواية (دون كيخوته). لأننا عندما نرصد المشهد من الزاوية ذاتها التي يقف فيها الشاعر، أي من وجهة نظر المنبر الوهمي، حيث تتمترس القصيدة لتطلق نيران مخيلتها، سيكون الكادر مخيباً وعبثياً في آن، إزاء الجمود الموحش لصمت مهول يملأ القاعة، هو فقط محض مقاعد خالية.

غير أن هذا العبث الشعري – لو فكرنا قليلاً – لا يلبث حتى يتحول إلى جمال عظيم، مقارنة بما يحدث في اللحظة نفسها خارج القاعة من خراب فادح، يحصد الأرواح ويدمر العمران، ويقتلع مدناً بأسرها، ليهجر أهلها شتاتاً داخل ليبيا وخارجها. حينها فقط سندرك تماماً أن الشاعر هنا، يعتبر كالقابض على الجمر، عندما يقترحُ للجمال هذا المأوى.