فقدت الحقولً بهجة شمسها، وشجيراتها النضرة، بعد رحيل الحيوانات الصديقة والأليفة.

أجل، خلت الأوراقُ تماماً من الأرنوب المجتهد، والدبدوب المرح، والحمار الطيب، والببغاء الفنان. غادروا جميعهم حلبة الرسم، وتخلوا عن تلك الرفقة البهية في اللعب. خسروا مشيئة الألوان الآمنة وتضافرها، لكي تشكل عالماً رحيماً، متسامحاً وجميلاً وحالماً، من قوس قزح وهو يسبح في سماء الورقة بنعومة ندية، وشمس ربيع حنونٌ لاشكّ، وأزهارٌ استعارت ألوانها من جمال نقيّ وصادق.

فقدت الحقولً بهجة شمسها، وشجيراتها النضرة، بعد رحيل الحيوانات الصديقة والأليفة.

أجل، خلت الأوراقُ تماماً من الأرنوب المجتهد، والدبدوب المرح، والحمار الطيب، والببغاء الفنان. غادروا جميعهم حلبة الرسم، وتخلوا عن تلك الرفقة البهية في اللعب. خسروا مشيئة الألوان الآمنة وتضافرها، لكي تشكل عالماً رحيماً، متسامحاً وجميلاً وحالماً، من قوس قزح وهو يسبح في سماء الورقة بنعومة ندية، وشمس ربيع حنونٌ لاشكّ، وأزهارٌ استعارت ألوانها من جمال نقيّ وصادق.

فجأة انسحب البهاء منكسراً وخائباً، ليترك الفضاء للبشاعة وحدها، للطائرات المقاتلة والصواريخ، للدبابات وعربات الميم طاء، للخراب ودخان الحرائق. لحملة الكلاشنكوف وهم يجوبون الشوارع بمشية استعراضية شاهرين أسلحتهم التي تطلق النيران. حيث لاشيء يصمد، سوى الخراب وحده. كل شيء تغير فجأة، هكذا هم أطفال الحروب.

هذه مجرد جزئية صغيرة. صورة منتزعة من سيرة براءة الألوان، تحاول من جهتها تقديم ولو لقطة عابرة من مشهد الحرب الليبية الدائرة منذ خمس سنوات.. حين بدأت الحربُ تقترب أكثر فأكثر، من البيوت والشوارع والمدارس والحدائق.. ولاسيما في أثناء القصف الجوي الذي قامت به طائرات وبوارج الناتو على المدن والبلدات.

العاصمة طرابلس بصورة خاصة كان لها نصيبها الوافر من القصف الجوي والبحري، عندما تدفقت الصواريخ والقنابل لتدك أهدافاً عسكرية وأمنية داخل الأحياء السكنية. فضلاً عن اشتباكات ومعارك طاحنة دارت بالأسلحة الثقيلة في شوارع المدينة وأحيائها المكتظة بالسكّان.

في الآن نفسه انتقلت الحرب إلى وسائط الإعلام، والتي لم تكن بمعزل عن حواس الطفل ومشاعره، ولاسيما برامج التلفاز الإخبارية والتي تتناول بالخبر والصورة ويلات ومجازر الحرب الليبية، بكل بشاعتها الوحشية، من قطع رؤوس إلى بتر أطراف إلى مشاهد دامية تقشعر لها الأبدان.

السؤال المحير: ماذا فعلت الدولة الليبية بكل هياكلها وهيئاتها ومؤسساتها ذات الشأن، من وزارات تعليم وصحة وشؤون اجتماعية، وثقافة وإعلام، وأوقاف؟. وبأي سياسات ومخططات وبرامج تصدّت لمعالجة مشكلة ضحايا الحرب، من هذه الفئة العمرية القاصرة عن استيعاب ما يحدث حولها من خراب مفتوح، وفوضى جامحة خلخلت كل شيء في الحياة؟.

للأسف ظلت الدولة بكافة هياكلها ومؤسساتها، بحكم تصاعد وتيرة الاقتتال، فضلاً عن الصراعات السياسية، عاجزة تماماً عن فعل أي شيء مُجدٍ وحقيقي، وبالمثل كانت مؤسسات المجتمع المدني هي الأخرى مرتبكة وهشة، وقاصرة عن تفعيل دورها – ولو نسبياً – لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.

قبل قليل، قال صديقي الطرابلسيّ: كان طفلنا الذي لم يجتز الخامسة من عمره (عام 2011)، سليماً وفرحاً وناعماً، وهو يبتكر كائنات أكثر مرحاً لرسومه وألعابه، ويملأ أركان البيت حيوية ونشاطاً. لكن ما أن بدأت آلة الحرب تقترب من بيتنا حتى تغيّر كل شيء، تغيّر إلى ما هو أمرّ وأسوأ. بدءاً من الأيام الأولى لانتفاضة فبراير كنّا نسمع أصداء الرصاص والقذائف. أي منذ أن احتشد جمع من الحقوقيين أمام مبنى المحكمة، بشارع السّيّدي، والذين تمّ تفريقهم من طرف فرق الأمن بواسطة النيران وقنابل الدخان. بعض المتظاهرين لاذوا بمدخل العمارة نفسها التي نقطنها. لكن مشكلتنا تفاقمت تحديداً في اللحظة التي قصفت خلالها طائرات حلف الناتو وبوارجه الراسية في حوض المتوسط مبنى الاستخبارات العسكرية، والذي لا يبعد عن بيتنا سوى بضع مئات من الأمتار. انفتحت النوافذ بتأثير هزة قوية وانفجار مروع، واقتحمت سحبٌ كثيفة من الغبار والدخان مشبعة برائحة بارود وكلس. هرعتُ مسرعا نحو طفلي الذي كان يصرخ وينتفض. وحين حملته، ظل منكمشاً على نفسه بصلابة. وقد اتخذ وضع الجنين في الرحم. مرت تلك الليلة بصخبها ورعبها. لكن لم يمر الأمر على طفلنا بسلام.

ظل الصغير لسنتين متتاليتين لا ينام الليل. بل يجلس في سريره متربصاً ضوء الصباح، ولا يخلد للنوم حتى يطمئن تماماً لشروق الشمس. حيث تغير سلوكه على نحو مخيف، وصار يخشى أي صوت ارتطام مباغت وعنيف، بما في ذلك صوت طرق الباب أو إقفاله بقوة. وتدريجياً لاحظنا بأنه قد أضحى عدوانياً، وعصبياً، وأن ألعابه بدأت تتغير هي الأخرى، لتتخذ أشكالاً غريبة، أكثر ميلاً واستهواءً للعنف، وبالمثل انسحب الأمر على العاب الفيديو ( البلايستيشن ).

كذلك صار يتشبث بمشاهدة أفلام الرعب، ويتحايل أثناء سهونا على استخدام ريموت التلفاز، لعله يعثر على ما يلبّي حاجته لمشاهد الصور الأكثر ترويعاً. بالمثل تغيرت كراسة رسمه، لتخضع لمحاكاة صور القتال، وقد امتلأت صفحاتها بهيئة طائرات تطلق القذائف، وأشكال تشيرُ إلى مسلحين ودبابات، ونيران تتصاعد ألسنتها من حطام بنايات مدمّرة. لهذا أوليناه المزيد من العناية والاهتمام، مع الإصغاء لشكاته، وحكاياته أيا كانت. ناهيك عن برامج للترويح من خلال النزهات وغيرها، مع إضافة قدر من الموسيقى في البيت، وتوفير مطبوعات تتماشى مع سنّه: مجلات وقصص، وتحفيزه على القراءة عبر مكافأته نظير كل قصة يقرأها، أو يعيد كتابتها. وفي نفس الوقت كنا نتحايل على تبديل مقتنيات اللعب إلى ما هو أقلّ أذى وأكثر انسجاماً وتحفيزاً لخيال مسالم. إضافة إلى تغيير طلاء غرفة نومه، وتجديد أثاثها، وتزيين جدرانها بلوحات تحيل إلى حديقة أو حيوان أليف.

صحيح لم تكن المسألة هينة. لكنها أخيراً مرت بسلام نسبي. إذْ خفّت قليلاً ردودُ فعله العدوانية مع مرور الوقت، غير أن تلك النوبات من التوتر والانفعال مازالت تنتابه، وان على فترات متباعدة وبشكل أقل حدةً وعنفاً عن ذي قبل.

بعد مضي خمس سنوات تقريباً، شكلت ملامحها الدميمة معاركٌ واشتباكات مسلحة، ما تلبث حتى تعلن عن نفسها بضراوة . يظل السؤال الأكثر حيرة وقلقاً: هل ما زال في الإمكان، بالنسبة لأطفال ليبيا وغيرهم من أطفال البلدان العربية المنكوبة بويلات الحروب وجرائمها، أن يستعيدوا تلك البراءة التي تليق بجمال كراسة الرسم، لكي تسترد مخلوقاتها الجميلة التي شوهتها الحرب.