تحول معهد أمناء الشرطة في طرة، والمجاور لمجمع سجون طرة منذ وقت ليس بقصير إلى قبلة للمظاليم والباحثين عن عدالة وأمل في انتصار صغير في ثورة في مرحلة الهزيمة، المعهد تم تأسيسه كمكان تعليمي، يتقدم له الطلبة الحاصلون على الثانوية العامة أو ما يعادلها من التخصصات الفنية، يدرسون به ليتخرجوا ويصبحوا أمناء شرطة. وتستخدم قاعات المعهد كقاعات محكمة، ومثله مثل الثورة الآن لا يعطي الأمل ولا يحقق العدالة.

تحول معهد أمناء الشرطة في طرة، والمجاور لمجمع سجون طرة منذ وقت ليس بقصير إلى قبلة للمظاليم والباحثين عن عدالة وأمل في انتصار صغير في ثورة في مرحلة الهزيمة، المعهد تم تأسيسه كمكان تعليمي، يتقدم له الطلبة الحاصلون على الثانوية العامة أو ما يعادلها من التخصصات الفنية، يدرسون به ليتخرجوا ويصبحوا أمناء شرطة. وتستخدم قاعات المعهد كقاعات محكمة، ومثله مثل الثورة الآن لا يعطي الأمل ولا يحقق العدالة.

تحول المعهد إلى محكمة للثورة، قضايا عدة سياسية تعقد جلساتها هناك، خاصة قضايا التظاهر والحريات، فدخول معهد أمناء الشرطة يوازي في صعوبته في بعض الأحيان الدخول إلى وزارة الداخلية للأهالي والزوار بالطبع وليس لضحايا القمع، فهؤلاء يدخلون المعهد بسهولة بالغة داخل سيارات الترحيلات. هم لا يرغبون في تواجد الأهالي أو الأصدقاء داخل القاعة، فكانت النتيجة أن تحولت الساحة المحيطة بالمعهد، والمقهى الصغير المقابل له إلى ساحة انتظار.

انتظار زيارة السجن كئيب وقاس، أما قسوة انتظار المحاكمات فتأتي حين يتملكك بعض الأمل في بعض العدالة.  معهد الأمناء محاط تقريبا بالخواء، لا شئ، لا أحد، برغم وجود بعض المنازل وبعض المحال وبعض المارة.

في المرة الأولى التي ذهبت فيها إلى المعهد، وبعد أن رفض الحراس إدخالي قاعة المحكمة رغم إبرازي بطاقة عضوية نقابة الصحفيين، جلست بجوار الأصدقاء والأهالي أمام أحد المداخل للمعهد، ممسكين جميعا بصور للمعتقلين الذين يحاكمون بالداخل. لم نشكل أي خطورة حينها، فهذه الصور لن يراها أحد، ولن تصورها كاميرات في هذا المكان المهجور على الطريق السريع المقابل لأحد مداخل المعهد. وكان إصرارنا على رفع هذه الصور يؤكد أكثر على حالة اليأس والهزيمة.

ولأنه لا يوجد جدوى من أي احتجاج، ومثله مثل السجون والمستشفيات دائما ما يكون هناك مقهى للانتظار، رغم ذلك تمر الساعات ليست أقل وطأة وثقلا. المقهى ليس بعيدا عن سياق المكان، هو مقهى صغير له سلالم قصيرة، ولكن له كراسٍ كثيرة داخل وخارج المبنى. هو عبارة عن مبنى مستقل بذاته يتناسب في كآبته مع المكان، أو ربما المكان هو الذي أضفى عليه الكآبة. يجلس الأهالي والأصدقاء في المقهى نفسه أو يقفون حوله لساعات.

المشهد متكرر في المرات القليلة التي تواجدت فيها هناك، كان المشهد يبدو كساعات من الصمت المتوتر القلق، وربما يتخلله لحظات من السخرية، أو محاولات لمتابعة ما يحدث بالداخل عبر ما يكتبه المحامون والصحفيون داخل القاعة على شبكات التواصل، وقد يقرر أحد الجالسين كسر الملل والتوتر بالحكي أو بالغناء. يتلاشى كل ذلك في لحظة، بصدور الحكم مرة بالحبس خمسة عشر سنة، وأخرى بثلاث سنوات، وثالثة بتأجيل لثلاثة أشهر، أو بتأييد الحكم. نادرا ما يكون القرار إخلاء سبيل المعتقلين أو براءتهم، فالعدالة فيما يبدو غائبة عن المعهد بل وربما عن قاعات المحاكم جميعا.

تتغير ملامح وجوه الحاضرين فجأة، يسود الغضب، أو الحزن، أو الصدمة. ويزيد من كآبة المشهد الموجع بالأساس، بكاء الأم أو الأخ أو الأخت أو حتى الأصدقاء، أو انهيارهم التام وتعرضهم للإغماء. تنطلق بعد قليل أسئلة مثل “هنعمل ايه دلوقتي؟” أو “هنشوفهم ازاي؟” أو “هندخلهم اعاشة ازاي وامتى؟”، ويبدأ البعض بالهرولة باتجاه المحامين ربما يعطون أي إشارة لأي بادرة أمل يمكن الادعاء بتصديقها. ثم يخلو المكان بعد رحيل الجميع لعدم جدوى الانتظار وخطورته ويعود المكان خاويا جافا مرة أخرى. فكل لملم حزنه وغضبه وهزيمته وأسئلته العاجزة، وذكراه مع قريبه أو صديقه المعتقل ورحل، ليعاود الكرة من جديد في جلسة أخرى منتظرا قرار المحكمة وآملا في بعض العدل. وستسمع من عمال المقهى جملا مثل ” لا حول الله يا رب” “عيال صغيرين يا عيني اللي محبوسين دول” فهم يسمعون كل الحكايات أثناء الانتظار، ويرون ما يفعله قرار المحكمة عادة بالمنتظرين.

مؤخرا قرر قاضي الاستئناف في قضية الاتحادية الشهيرة، والمعتقل فيها 22 شابة وشاب، أكبرهم لم يجاوز الثلاثين، وصدر ضدهم حكما بالحبس ثلاث سنوات في الدرجة الأولى، قرر القاضي نقل المحاكمة إلى محكمة العباسية، وهناك كانت الفرصة أفضل للقاء، بينما قرر قاضي إعادة إجراءات قضية الشورى الشهيرة أيضا، والمعتقل فيها 20 شخص كلهم باستثناء واحد بين ال18 عام وال35، قرر القاضي بعد ضغط سياسي جعل الجلسة علنية،  والسماح للأهالي والأصدقاء بدخول القاعة، ثم برؤية المعتقلين، لكن هذا لم يمنع البعض من الانتظار في الخارج على المقهى وحوله، فلقد كان التساؤل بينهم “أيهما أكثر قهرا أن ترى صديقك لمدة دقائق خلف الزجاج والحديد، وربما تسمع بأذنيك حكما قاسيا عليه، أو لا تراه في هذا الوضع من الأساس حتى لا تنهار أمامه خاصة أمام ابتسامة مشرقة مرسومة بصعوبة على وجهه تعلم ما وراءها جيدا من الم وعجز؟”.

ويبقى الانتظار هو السمة الواضحة لهذه المرحلة من عمر الوطن، انتظار قرار المحكمة، انتظار الأمل، انتظار الأصدقاء والأهل داخل السجون، وربما انتظار الثورة نفسها.