اكمل هذا العام عشرة سنوات من العمل بالصحافة، كنت منبهرة بمهنة الصحافة منذ كنت صغيرة استمع الى قصص والدي عن جدي وجدتي الصحفيين، كان القرار حاسما حين شاهدت شخصية اثارالحكيم الصحفية المتهورة المغامرة التي تواجه المخاطر بخفة وبعض السذاجة مع رامي قشوع  السيناريست الذي يتحول فيلمه الى حقيقة على يد شخص سيكوباتي، في فيلم بطل من ورق.

ولكنني كنت أعلم جيدا أن الواقع أكثر مرارة وثقلا من السينما، فالواقع اودى بجدي وجدتي الصحفيان اسماعيل المهدوي وزينات الصباغ عدة مرات الى السجن لارتباطهما أيضا بالشأن العام. ارتبطت في ذهني مهنة الصحافة بالشأن العام، فهي المهنة التي تدافع عن حرية التعبير والمعرفة والحق في تداول المعلومات، وتدافع عمن لاصوت لهم، بالاضافة الى دورها في مراقبة الحكم كسلطة رابعة كما هو شائع عنها، رغم تدهور المهنة عبر السنوات الماضية خاصة آخر ثلاث سنوات مع سياسات الصوت الواحد والتطبيل للنظام، مع قمع عشرات الصحفيين ووضعهم في السجون.

ولكن لم تكن تلك في الحقيقة هي مشكلة المهنة الوحيدة، فرغم مايبدو من “صيت” للصحفيين، الا أنها في الحقيقة مهنة بدوام كامل بالمعنى الحرفي للكلمة، اعتادت أمي ان تقول لي مازحة “انتي اشتغلتي صحفية لأنك تموتي في الصرمحة في الشوارع”، كما أنها لا تدر حدا أدنى كافي من الدخل في المقابل، ولكن رغم ذلك هي مهنتي التي أحبها ولم أفكر في مهنة أخرى بديلة عنها سوى ربما فتح “ستوديو لتعليم الرقص الشرقي” كحل أخير على سن المعاش.

عملت بالصحافة بدوام كامل وجزئي في أكثر من مكان منذ تخرجي في ٢٠٠٦ وحتى ٢٠١٣، كنت اقضي أياما كاملة في العمل مع يوم واحد كإجازة اسبوعية، وبصعوبة ورغم أنني كنت معينة أصبحت عضوة في نقابة الصحفيين بعد اضراب عن الطعام لمدة اربعة ايام، لانتمائي لجريدة معارضة، وهو ما طالبت به واصريت عليه ضمانا لبعض الحماية وبعض الدخل الاضافي.

حين قامت الثورة في العام 2011 كنت عاطلة عن العمل، كنت قد انهيت عقدي في مشروع بحثي عملت به لمدة عام في 2010، وتقدمت للعمل في واحدة من أهم الجرائد المستقلة حينها، تم قبولي في الوظيفة في فبراير من العام 2011 وقبل تنحي مبارك بايام، مما اضطرني على غير عادتي لتخفيض ساعات نومي الثمانية لاستطع الموازنة بين العمل والاعتصام في ميدان التحرير، كانت الوظيفة تحريرية ومكتبية كمحررة لصفحة الرأي.

رغم ما تعلمته من هذه الوظيفة فيما يخص طريقة ادارة صفحة وتحسين اللغة الا انني بالطبع كنت أحن للكتابة، فبدأت في الكتابة لصفحات الثقافة والمجتمع في نفس الجريدة، كتبت عن قصة الثورة كثيرا وليس عن أخبارها، فلقد فضلت منذ اليوم الأول للثورة الا اغطي اخبار ميدان التحرير وأن اشارك بصفتي مواطنة وليس صحفية، ولكن قصص الثورة وابطالها، وانتصاراتها وانكساراتها ظلت مجال كتاباتي المفضل حتى هذه اللحظة.

كل ما فتحته الثورة من آفاق وطموحات بصحافة حرة مستقلة لي ولزملائي، ولجيل جديد من شباب شاركوا في الثورة ثم شعروا أنهم بامكانهم توثيقها بالكتابة والتصوير، بدأ في الانهيار في العام التالي، الحسابات والمصالح والمخاوف أيضا سيطرت على توجهات الجرائد التي ملأت صفحاتها قبل عام واحد باخبار الشارع، اتضح لاحقا أنها لم تكن مهنية، بل بدت الثورة حينها أنها الطرف “الكسبان”، فانحازوا للثورة، وحين تراجعت الثورة انحازت الجرائد للثورة المضادة في اوجهها المختلفة بعد وصولهم تباعا للسلطة.

بحلول العام ٢٠١٣ كنت قد بدأت في فقد حياتي الخاصة بالتدريج، وكنت مثل الجميع قد اصبت بالاحباط العام، الذي زاد كثيرا مع منتصف هذا العام وما تلاه، وكان علي أن ابدأ في كتابة رسالتي للماجستير في العلوم السياسية التي اقوم بها وأنهيت السنة الاكاديمية فيها قبل ذلك بحوالي اربعة سنوات، فقررت أن اترك الجريدة وأعمل كصحفية حرة، وهنا بدأت مرحلة جديدة تماما في حياتي، كانت الفرص للعمل كصحفي مهني مستقل تتضاءل في اجواء هستيرية انقسامية، وكانت الاختيارات محدودة للغاية.

بدأت في مراسلة بعض الجرائد العربية والمواقع والجرائد الاجنبية والمصرية المستقلة، وعملت احيانا في افلام وثائقية وبرامج تليفزيونية كباحث ومعد ومنتج ميداني، كانت حياتي تبدو مثالية للجميع، لا يوجد أفضل من ذلك، فلدي الحرية في الوقت وفي الكتابة والعمل دون قيود، لكنني لم أنتهي من الماجستير، كان العمل دائما ما يشغل بالي، لأنني ببساطة لو لم أنشر شيئا لن أحصل على أي دخل، وبسبب طبيعة التواصل عن بعد، كثيرا ماكان يتأخر النشر والدخل ايضا.

في بعض الأحيان كنت أشعر أنني مثل التاجر الذي يحصل ديونه المستحقة من السوق، أعمل في عدة موضوعات بالتوازي، وهذا يجعل حياتي مشتتة و“مبهوأة”  في بعض الأحيان. لا أنكر أنني كنت أحمد الله يوميا على نعمة “الفريلانس” فلقد رأيت مايواجهه زملائي من تضييق في جرائدهم لحسابات سياسية، وتأخر رواتبهم بسبب انسحاب رؤوس الاموال من الصحافة المستقلة، بل وحتى  الجرائد القومية واجهت ازمات مالية ايضا، والأهم من كل ذلك كنت ممتنة لعدم اضطراري للاستيقاظ مبكرا كل يوم.

افتقد كل هذا الآن، وأعلم أنني سأفتقده أكثر وأنا على أعتاب العمل بدوام كامل، لكنني كنت في أشد الحاجة لبعض الاستقرار، فالمائة أو مئتين دولار التي قد أحصل عليها كل شهرين مقابل قصة صحفية، وكنت احسد عليها باعتباري اتقاضى مالا بالعملة الاجنبية لاتكفي لحد أدنى من المعيشة، حتى مع ارتفاع سعر الدولار، لما قابله من ارتفاع جنوني في كل الاسعار.

تصوير: صبري خالد