الساعة تشير إلى الواحدة ظهرا حين أقفل علاء الطويل باب منزله ونزل الدّرج مسرعا وهو يعدّل معطفه في يوم ممطر منتصف شباط/ فبراير 2014. تحسّس أذنه اليسرى ليطمئن أن قرطه الأسود في مكانه.  لم ينتظر الإشارة بل عبر الشّارع مهرولا في اتجاه القطار، صعد بسرعة، جلس في المكان الوحيد الشاغر إلى جانب شاب ملتحِ في الثلاثين من عمره.

الساعة تشير إلى الواحدة ظهرا حين أقفل علاء الطويل باب منزله ونزل الدّرج مسرعا وهو يعدّل معطفه في يوم ممطر منتصف شباط/ فبراير 2014. تحسّس أذنه اليسرى ليطمئن أن قرطه الأسود في مكانه.  لم ينتظر الإشارة بل عبر الشّارع مهرولا في اتجاه القطار، صعد بسرعة، جلس في المكان الوحيد الشاغر إلى جانب شاب ملتحِ في الثلاثين من عمره.

نظر الأخير إلى أذن علاء اليسرى بازدراء، غيّر ملامح وجهه بسرعة وابتسم قائلا “لا  أعرف اسمك يا أخي، ولكن أحببتك في اللّه، وواجبي أن أنصحك، فنحن مسلمون وأحاسب أمام اللّه إن لم أمنع معصية”. وتابع قائلا “أنت لا تزال يافعاً ويبدو أنّك متأثّر بالغرب. ألا تعلم ان وضع قرط هو من باب التشبّه بالنّساء والإسلام ينهى عنه؟”.

حينها تغيّرت ملامح علاء، رغم تعوّده على مثل هذه الكلام، وأراد الصّراخ بأعلى صوته في وجه مجالسه “أنا لا أدين بدينك..أنا ملحد”، ولكنّه لم يفعل بل تظاهر بتجاهل ما صدر عن المسلم النّصوح.

“هذا يحدث كل يوم” يقول علاء، 22 عاماً، الطالب في معهد الصحافة، بعد أن ينتهي من قص الحكاية، وابتسامة يائسة تطفو على وجهه، ويعلق متبرّماً: “مجتمع محافظ لا يقبل تونسياً بشعر طويل وأقراط”.

“نحن جميعا ملحدون”

منذ خمس سنوات، في محافظة قابس جنوب البلاد، أخبر علاء الطويل ذويه بأمر إلحاده، وكان عمره 17 عاماً. رفضه الجميع بما فيهم أقاربه الذين أوصوا أبناءهم بعدم الاختلاط به.

وعندما كان يتنقّل في أي مكان كان يلاحظ نظرات الازدراء من هيئته الغريبة. “الكل كان يسألني عن حفلات مزعومة كانت تنظّم بين الملحدين تمثّل موسيقى الرّيغي أثاثها والخمرة والماريخوانا زينتها” يقول ضاحكاً.

ولكن الآن، وقد توسعت شبكة علاقاته، نجح علاء في اختراق “الحظر” وبدأ العديد من زملائه الجامعيين ومعارقه بتقبله، “ولكن ليس المجتمع” على حد قوله.

فعندما التقى بالشاب الملتحي كان علاء في طريقه إلى المحكمة ليطالب بإطلاق سراح جابر الماجري، الفنان الذي أعلن إلحاده هو الآخر ونشر قبل نحو سنتين مجموعة رسوم على موقع “فيسبوك” اعتبرت تهكماً على الإسلام والنبي محمد، فحكم عليه  بالسجن لمدة سبعة أعوام.

يتسائل علاء “ماذا لو أخبرته أنني ذاهب للتظاهر تضامناً مع أحد رموز الإلحاد في تونس؟”.

علاء ومجموعة من الناشطين كثفوا على مواقع التواصل الاجتماعي مطالباتهم بإطلاق سراح الماجري، وأطلقوا حملات عديدة يقولون فيها “نحن جميعا ملحدون”، قادت إلى إطلاق سراح الأخير قبل أيام بقانون عفو خاص صدر عن الرئيس المنصف المرزوقي.

تهديدات بالتصفية

ولئن اختار علاء الصمت أمام الشاب الملتحي، فإن قصة مروان بن سعد الذي كان قد أعلن إلحاده هو الآخر، أخذت منحى مختلفاً.

فعندما نشر مروان صورته رفقة زوجته على حسابه الفيسبوكي لم يجل بخلده أنّ هذه الصورة الخاصّة ستصبح مصدر تهديد للعائلة الّشابّة، وأنّها ستنتشر على نطاق واسع في صفحات الإسلاميّين مع إضافة عبارة “ملحد خطير جدّا” بعد قرصنة حسابه.

القصّة بدأت بإنتاج مروان بن سعد فيلم وثائقي يحمل عنوان “الحريّة لجابر” لمساندة جابر الماجري، بعد دعوات غير مباشرة لقتله بسبب “ارتداده” عن دين الأغلبيّة في تونس ونشر صورته في أكثر من 20 صفحة لتتواتر التّعليقات الصّادمة والتّهديدات بالتّصفية الجسديّة.

رغم انتشار خبر التّهديدات التي تلقّاها مروان تواصلت حملة المطالبة بإطلاق جابر الماجري آنذاك في مواقع التّواصل الاجتماعي خاصّة في مجموعة “الملحدين التونسيّين” السريّة، والتي تضمّ أكثر من 400 ملحد تونسي.

“ماذا تنتظرون، أظهروا أنفسكم للجميع…أعلنوا إلحادكم وليكن ما يكن…لنقل لهم أنّ جابر ليس الملحد الوحيد في البلاد…بل هناك المئات من جابر”. هكذا عبرّ أحد الملحدين، في الصّفحة الخاصّة به، عن سخطه لمواصلة سجن جابر الماجري ورفضه مواصلة إخفاء الملحدين لأنفسهم.

يسرد مروان لـ “مراسلون” تفاصيل الواقعة قائلا: “وجدوا اسمي في منشورات الفيلم الذي يساند الماجري وعرفوا أني منتجه. من حينها بدأ التشهير الفاضح في أكثر من عشرين صفحة وانتشرت صورتي بالآلاف وقرأت العديد من التعليقات الصادمة التي تظهر مدى البشاعة والكره للاخر”.

رغم كل التّهديدات الموجّهة له لم يكن خوف مروان سوى على زوجته الموجودة معه في الصّورة، خاصّة أن عائلتها غضبت منه واعتبرت أنّه تسبّب في تعريض حياتها للخطر، ممّا دفعه للتوجّه لمركز الشّرطة للإعلام بتلقّيه تهديدات.

لا يتقبّل الاختلاف

لا يزال الإلحاد حتّى بعد الثورة من “التابوهات” كما تصفه تحية السعيدي، الباحثة في علم النّفس الاجتماعي. وترى، أن المجتمع التّونسي كغيره من المجتمعات العربيّة الإسلاميّة لا يتقبل فكرة وجود ملحدين داخله مدّعيا “تجانساً ظاهرياً”.

ولا توجد إحصائيّات وطنيّة دقيقة بخصوص عدد الملحدين أو اللّادينيّين. “ولكن ما يؤكّده البعض أن عددهم قليل جدّا ولا يكاد يمثّل 1% من مجموع سكان تونس الذي يعتنقون في غالبهم الإسلام، فحتّى أكبر جروب سرّي للملحدين على الفايسبوك تضمّ 376 عضوا”، تقول السعيدي.

في المقابل، يظهر المؤشر العالمي للأديان والإلحاد لعام 2012 بمركز “ريد سي” التابع لمعهد “دبليو أي إن جالوب الدولي” وهى شبكة عالمية رائدة في استطلاعات الرأي، استطلاعاً في تونس شارك فيه 503 أشخاص، وصف 22% منهم أنفسهم بأنهم “لا دينيون”، ورفض 2% الرد، ولم يبد أحد إلحاده.

وتتابع السعيدي “بعد ثورة 14 كانون الثاني/ يناير 2011 أصبح غير المتدينين يوصفون بالملحدين والزنادقة في محاولة طبعا لتوظيف الديني في السياسي”.

وتعتبر أنّه لا يحقّ لأحد قانونيا أن يكفّر غيره وأن لا أحد مطالب بالكشف عما يعتقد، “فحرّية الضمير وحرية ممارسة الشعائر الدينية من بين الحريات الأساسية التي ضمنها الدستور التونسي الجديد”. في إشارة إلى  إلى لفصل 6 من الدّستور التونسي الجديد، الذي يضمن الحقّ في عدم الاعتقاد، ويوكل للدولة أمر ضمان حُريّة المعتقد والضمير.

الملحد مصدر شرّ

خلال شهر رمضان الصائفة الماضية، واجه المفطرون تضييقات وتهديدات من جماعات دينية، “ممّا يجعل حياة الملحد في تونس صعبة”، يوضح الشاب علاء الطّويل.

ويقول علاء لـ “مراسلون إن “المجتمع التّونسي مازال إلى اليوم يعتبر الملحد مصدر شرّ، والصّورة النّمطيّة للإلحاد في ذهن المواطن التّونسي عموما تتمثّل في العلاقات الجنسيّة غير الشرعيّة وسوء الأخلاق”.

ورغم صعوبة عيش الملحد حياة عاديّة في مجتمع يُقال أن 99 % منه مسلم، ويرفض الاختلاف والتنوّع الدّيني، فإن علاء يأمل بأن تتغيّر العقليّات في تونس. “لكن حتى لو لم تتغير تلك العقليّات، أنا ملحد رغم أنفهم”، يختم حديثه لـ “مراسلون”.