ربما يكون المشهد الأكثر ألفة في شوارع طرابلس هو أكوام القمامة. المكبات تجد لها مكانا على الأرصفة وعند منعطفات الطرق، بل تتوسط الأحياء السكنية والشوارع الرئيسة.  أما الأهالي فلا يجدون مقرا لشكواهم سوى أدارج المسؤولين المغلقة. فما الذي يحدث في عاصمة ليبيا، ولماذا تغرق في نفاياتها على خلاف معظم عواصم العالم؟

يقول الخبراء إن القمامة المنزلية والتجارية تحتاج لعملية جمع ونقل وتخلص مرحلي، ثم تخلص نهائي إما بالدفن أو التدوير، وهي عمليات ما زال القطاع الخدمي الحكومي في ليبيا متخلفا إزاءها.

ربما يكون المشهد الأكثر ألفة في شوارع طرابلس هو أكوام القمامة. المكبات تجد لها مكانا على الأرصفة وعند منعطفات الطرق، بل تتوسط الأحياء السكنية والشوارع الرئيسة.  أما الأهالي فلا يجدون مقرا لشكواهم سوى أدارج المسؤولين المغلقة. فما الذي يحدث في عاصمة ليبيا، ولماذا تغرق في نفاياتها على خلاف معظم عواصم العالم؟

يقول الخبراء إن القمامة المنزلية والتجارية تحتاج لعملية جمع ونقل وتخلص مرحلي، ثم تخلص نهائي إما بالدفن أو التدوير، وهي عمليات ما زال القطاع الخدمي الحكومي في ليبيا متخلفا إزاءها.

ويوضح ميلود مبارك مدير إدارة التخطيط بشركة الخدمات العامة بطرابلس، “إن ما تقوم به شركتنا هو 50% فقط من عملية جمع ونقل قمامة العاصمة”.

فرغم الملايين التي تضخ لشركة الخدمات هذه كميزانية سنوية يؤكد مبارك أن النتائج المتواضعة تعود إلى “تركة الماضي الثقيلة” وليس إلى قصور في عمل الشركة، في إشارة منه لقانون النظافة الذي أصدره نظام القذافي، والمنبثق من مقولة من كتاب القذافي الأخضر بأن “المنزل يخدمه أهله”.

هذا القانون الذي يحمل الرقم 13 والصادر سنة 1984 ينص على جمع القمامة من أمام المنازل لا من حاويات مخصصة لذلك، ويسمح فقط بالجمع والنقل من الشوارع الرئيسية. ويعلق مبارك بأن “النظام السابق لم تكن لديه أي اهتمامات أوسع خصوصا فيما يتعلق بالبيئة”.

إلا أن مبارك يتأسف أيضاً على أنه لم يتم تغيير قانون النظافة، ولم يصدر أي قانون جديد بعد الثورة، وبقي اهتمام النظام الجديد بالوضع الأمني يحتل الأولوية القصوى فيما أهملت البيئة والخدمات العامة ككل.

ويضيف “هناك أيضا عراقيل أخرى تواجه الشركة، فالوعي البيئى لدي الليبين قليل، وإخراج القمامة لا يتم في الوقت المحدد، ولا يمكن للشركة تحديد مواعيد خروج سيارات النظافة بسبب الوضع الأمني، فضلاً عما يتعرض له سائقو سيارات النظافة غالباً من الإهانات والسب والشتم، وأحياناً للسطو المسلح خاصة أثناء الليل”.

ربع دينار للبناء

بين الحين والآخر يعتصم موظفو شركة الخدمات العامة للمطالبة بسداد مرتباتهم المتأخرة، وبتغيير لوائح الشركة القديمة والتي تبنى عليها الميزانية، مثلما حدث في بنغازي مؤخراً، “فالأسعار محددة بقانون قديم، يقدر تكلفة التخلص من القمامة (جمع ونقل وتخلص نهائي) بـ 39 دينار فقط لكل طن (الدينار يعادل 80 سنتا امريكيا)، أما بخصوص كنس الشوارع فقد حددت اللائحة 13 درهماً للمتر الطولي، فلو افترضنا واجهة بيت طولها 20 متراً، هل يستطيع أحد أن ياتي بعامل نظافة يكنس تلك الواجهة بربع دينار؟” يقول مبارك.

ويضيف “الشركة عاجزة أيضاً عن تنظيف وترتيب الحدائق العامة، فقد خصصت اللائحة 4 دينار سنوياً لتنظيف المتر المربع من الحدائق العامة، وعُدلت في 2006 لتصبح 8 دينار سنوياً للمتر المربع، أي ما يعادل 110 درهم يومياً ( يدخل في ذلك الماء والكهرباء والأدوية وقص الأعشاب والنقل وغيرها من التكاليف)، كما لا توجد أية بنود للنافورات ولا للمقابر”.

اللائحة التي ذكرها المسؤول في شركة الخدمات العامة تم تعديلها فعلاً في تموز/يوليو 2013، بحيث زادت سعر التكلفة إلى 81 دينارا لكل طن قمامة منزلية، ولكنه لم يدخل حيز التنفيذ بعد.

ميزانية لا تكفي

توضح دراسة سابقة أجرتها شركة الخدمات العامة واطلع عليها “مراسلون”،أن سكان العاصمة طرابلس ينتجون 2500 طن قمامة منزلية يومياً بافتراض أن عددهم يبلغ 1.5 مليون نسمة. ويبلغ متوسط إنتاج القمامة المنزلية 1.6 كيلو غرام يومياً لكل فرد أي ما يقارب 600 في السنة.

هذه الكمية من القمامة المنزلية سنوياً تحتاج لأكثر من 35.5 مليون دينار، لجمعها ونقلها والتخلص منها، وهي تكاليف لاتشمل الأمور الإدارية والفنية. غير أنه تم تخفيض ميزانية شركات الخدمات العامة في عموم ليبيا، وخصصت وزارة الحكم المحلي المسؤولة 46 مليون دينار لسنة 2013 لمدينة طرابلس، دون أن تاخذ في حسبانها عدد سكان العاصمة بشكل دقيق، فهناك نازحون وعمالة أجنبية غيرمسجلة، وتلك الميزانية بحسب الشركة تكفي لتنظيف حوالي 50% فقط من العاصمة.

العمالة الأجنبية

العمالة الأجنبية التي تعمل في تنظيف الشوارع يتم تعيينها من السوق المحلي، ويكون التوظيف بعقود محلية مؤقتة وبمرتب في حدود 450 دينار شهرياً، مع الإضافي يصل إلى 600 دينار شهرياً.

كما أن هؤلاء العمال يقيم أغلبهم في مواقع الشركة ولا يملكون حق الإقامة قانونية، خاصة ذوي الأصول الأفريقية، إلا أنهم يملكون بطاقات تعريف من الشركة تثبت عقودهم، وجوازات سفرهم موجودة لدى الشركة. أما مرتباتهم فتصرف لهم من الشركة على هيئة صكوك وليس نقداً، وذلك خوفاً من تعرضهم للسطو المسلح أثناء عملهم أو حتى في أماكن إقامتهم.

وما يجعل العمال الأجانب عرضة للمخاطر الصحية هو أنهم يحتفظون بما يحصلون عليه من نفايات يرون أنها ذات قيمة شرائية، وهذا يساعد في نقل الأمراض والجراثيم إلى عائلاتهم ومحيطهم.

وبحسب مسؤولي شركة الخدمات العامة في طرابلس، فإن ما يقارب 2000 من العمالة الأجنبية العارضة يعملون في الشركة، يقومون بالجمع والكنس فقط، فضلا عن 3400 ليبي.  

نقص في الموارد

يقول عبد الحميد الساقزلي موظف في إدارة التخطيط بالشركة إن “معظم من يعمل في نقل القمامة هم من العمالة الأجنبية، اما الليبيون فهم يعملون كسائقين ومشرفين وفنيين وفي تنظيف الحدائق والمقابر”.

والشركة بحسب الساقزلي ليس من اختصاصها جمع ونقل والتخلص من القمامة وتنظيف الحدائق العامة فقط، بل لديها أيضاً مصنع لتجهيز لوحات تسمية وترقيم الشوارع والسلات واللافتات.

ويضيف “حسب المقاييس العالمية فإن مدينة طرابلس تحتاج إلى 5000 عامل نظافة لجمع ونقل القمامة وكنس الشوارع، تملك الشركة منهم 2000 فقط، كما تحتاج إلى 525 سيارة نقل تقريباً، ولدى الشركة 120 سيارة فقط، إضافة إلى 100 سيارة من شركات مساندة”.

مكبات غير صحية

بقيت مرحلة الدفن النهائي للقمامة مهملة في أيام النظام السابق والحالي. حتى المكبات المخصصة لاستيعاب القمامة والتي تم اختيارها في مناطق بعيدة عن المناطق السكنية، زحف إليها البناء العشوائي غير المرخص، وأصبحت تقع بمحاذاة السكان الذين يشتكون منها باستمرار.

المكب النهائي بمنطقة سيدي السائح بطرابلس هو عبارة عن 100 هكتار من الأرض الشاسعة، والتي تكفي كمكب نهائي لمدة 30 عاماً، بحسب الساقزلي، وقد قدمت الشركة مقترحات كاملة لبرامج الردم الصحي سنة 2001، لم تتم الموافقة عليها من قبل اللجنة الشعبية العامة (رئاسة الوزراء).

فبقيت بذلك نفايات طرابلس تتسرب إلى باطن الأرض وتلوثها، في غياب أية  قوانين حتى يومنا هذا تنظم التعامل مع النفايات الملوثة مثل النفايات الطبية والإلكترونية.

وقت تخصيص مكب سيدي السائح  لم يكن هناك أي سكن قريب منه لمسافة أكثر من 5 كم، واستحدثت المساكن بعد إنشاء المكب. يقول الساقزلي “النار تشتعل تلقائياً داخله، وغازات سامة مثل الميثان تنبعث من تلك النيران، وتتكاثر القوارض والحشرات، ولا يوجد ردم صحي للنفايات، بل فقط إضافة أتربة حتى علو 30 سم ودمك القمامة”.

في آذار/مارس 2012 أقفل أهالي منطقة سيدي السائح مكب القمامة النهائي لأكثر من أربعة أشهر، وتكدست القمامة في شوارع طرابلس، الأمر الذي دفع وزارة الإسكان والمرافق إلى الإعلان عن تعرض المدينة إلى كارثة بيئية في حال استمر إقفال المكب لفترة أطول.

توصلت الوزارة بعد ذلك إلى اتفاق مع الأهالي بأن يسمحوا باستعمال هذا المكب لمدة ستة أشهر فقط، وقدمت لهم كافة الضمانات اللازمة لقفله نهائياً بعد انقضاء تلك الفترة، وهو ما لم يحدث.

ينطبق الحال على مكب القمامة المرحلي بمنطقة عين زارة، حيث لم يكن حوله عمارات سكنية، لكن بعد انتشار البناء العشوائي غير المخطط بدأ جيران المكب يشتكون منه ومن الروائح الكريهة التي يسببها.

ويؤكد مسؤولو شركة الخدمات العامة أن المواطنين يرفضون أي مقترح لمكب مرحلي أو نهائي  في أي منطقة في طرابلس، وذلك خوفاً من المشكلات التي سيجرها على مناطقهم وجود المكبات.

تدوير القمامة

وزارة الإسكان والمرافق كانت قد أعلنت في آذار/مارس 2012 أنها تسعى لإقامة مصانع لتدوير القمامة  في غضون سنة أو سنتين، وفق ما هو موجود في دول العالم، على أسس صحية وبيئية نظيفة، تُمكن من فرزها وإعادة إنتاجها، وهو ما سيخلق فرص عمل جديدة أمام الليبيين.

لكن ميلود مبارك يؤكد أنه بعد انقضاء ما يقارب السنتين على تلك الوعود لا توجد أية عمليات تدوير للقمامة تجري في الوقت الحالي، وطريقة التخلص الوحيدة المتبعة هي الردم فقط.

يروي مبارك أنه كان هناك في السابق مصنع فرنسي في منطقة السواني لتدوير القمامة، أنشئ في سنة 1977، حيث لم يكن يجاوره أي سكن، وكانت هناك شركة مصرية قامت بتشغيله من سنة 2000 إلى 2005، ووصل إنتاج المصنع إلى 500 طن يومياً، وكان ينتج السماد العضوي والكرتون والحديد.

ويضيف أنه “بسبب مشكلة في آلية التخمر (الرائحة التي كانت تخرج من السماد العضوي كانت قوية وتؤثر على المناطق المجاورة)، اشتكى الجيران الجدد للمصنع إلى البغدادي المحمودي (رئيس الوزراء في نظام القذافي)، الذي أصدر قراراً بإيقاف المصنع، وأقفل سنة 2008”.

وكان هناك أيضا مصنع سيدي السائح الذي أنشئ سنة 2003، ووصل إنتاجه إلى 320 طن يومياً من السماد العضوي والبلاستيك والمعادن والورق المقوى (الكرتون)، لكن في آب/ أغسطس 2011 تم تدميره وسرقته من قبل بعض المخربين، بحسب مبارك.

شركات أجنيبة

رئيس الوزراء علي زيدان كان قد صرح في تموز/يوليو 2013 بأنه “قد تم التعاقد مع ثلاثة شركات محلية خاصة لإزالة القمامة وتنظيف وسط المدينة في طرابلس وبنغازي، وقد أعطيت لها فترة 3 أشهر، إذا افلحت ونجحت في عملها فستمدد لها العقود وإذا فشلت فسيتم التعاقد مع شركات أجنبية” وهي خطوة جاءت بحسب زيدان في سياق اهتمام الحكومة بالقطاع الخاص والتعويل عليه لكفاءة أدائه.

لكن مبارك لا يعلق آمالا كبيرة على هذه التصريحات، ويؤكد أن الحكومة لم تعاقد مع أي شركة أجنبية إلى حد الآن. لافتا إلى أن الشركات المحلية قادرة على حل مشكلة القمامة إذا ما توفرت الميزانيات والموارد، “ففي السابق جاءت شركة فرنسية (فيولا) وطلبت ميزانية 280 مليون يورو لتنظيف العاصمة طرابلس فقط، أي أضعاف ميزانية شركتنا، فلو توفرت لنا نفس الامكانيات لوضعنا مشكلة النفايات وراءنا منذ زمن”.