“نزل علي بابا من أعلى الشّجرة والدّهشةُ تكاد تعقد لسانه.. وقف أمام الصّخرة يتأمّلها، ثم نادى بأعلى صوته: افتح يا سمسم، فإذا بالصّخرة تنشقّ مرّةً ثانيةً عن كهفٍ كبيرٍ مليء بالذهب والفضة والأحجار الكريمة” ألف ليلة وليلة.

“نزل علي بابا من أعلى الشّجرة والدّهشةُ تكاد تعقد لسانه.. وقف أمام الصّخرة يتأمّلها، ثم نادى بأعلى صوته: افتح يا سمسم، فإذا بالصّخرة تنشقّ مرّةً ثانيةً عن كهفٍ كبيرٍ مليء بالذهب والفضة والأحجار الكريمة” ألف ليلة وليلة.

لايمكن فهمُ التعقيد الذي وصل إليه المشهدُ الليبي سياسياً وأمنياً، بل وحتى اقتصادياً واجتماعياً إلا بتشريح أسبابه، ومن أهمها دورُ وسائل الإعلام وتحديداً القنوات التلفزيونية الفضائية خاصةً وعامة، التي ترفع كل منها شعارات وحدة التراب وتحقيقِ العدالة وضمانِ الحرية والاستقرار، لكن يصدق فيها قولُ الشاعر:

وكلٌّ يدّعي وصلاً بليلى .. وليلى لا تُقرّ لهم بذاكَ

على الصعيد الشخصي، أؤمن تماماً بأن الإعلامَ في أي مكان أو زمان، هو وسيلةٌ لخدمةٍ سياسةٍ أو مصالح معينة (أجندات) ولا حرج، وأن كلَّ وسيلة منها تتبنى السياسةَ التحريرية والمواقف التي يرسمها ممولها، وهي انعكاس لصراع السياسات والمصالح داخلياً وخارجياً، وإلا كان الأمر عبثاً لا معنى له.

لكن ثمةَ من يسعى عبر الإعلام في ليبيا لصناعةِ الأحداث نفسها بتوجيه الرأي العام، وثمة من ينفق الملايين على قائمة هائلة من القنوات التلفزيونية، ولعل الأمر الذي يدعو إلى الريبة والتوجس هو استماتةُ تلك القنوات في إخفاء مموليها، وفي ذلك ما فيه من علامات الاستفهام ومؤشرات الخطر، فلا يملك المتلقي المسكين إلا وضع كفه على خده بانتظار الانفجار الأكبر!..

لن أحدثكم عن فقدان البوصلة المترتب عن استمرار الصراع بين القوتين العظميين أمريكا وروسيا، ومن ثم تداعيات الاصطفاف الكوني إلى معسكرين لا ثالث لهما، وتوابع ذلك على منطقتنا وما حولها.

لكني سأستعرض معكم نكبة شعبٍ بات يحلم – تماماً مثل علي بابا – بدخول جنةِ النعيم بعد فتح صخرة المغارة وتحطيم ما وصفت بـ”القيود”، إلا أنه فوجئ بأكثر من 40 قناة تلفزيونية فضائية بعد أحداث فبراير عام 2011م ، وهي قنوات تتفاوت درجة وضوح توجهاتها وتتباين سياساتها التحريرية لأقصى اليمين وأقصى اليسار.

في شهر مارس من عام 2011م انطلقت قناة ليبيا الأحرار من العاصمة القطرية الدوحة بتمويل قطري معلن، ولم نسأل حينها عن مصلحة دولة مثل قطر في ذلك ، لكنّا اكتشفنا لاحقا!.

خلال نفس الشهر انطلقت من بنغازي قناة ليبيا الحرة الخاصة، إسلامية الهوى – نسبة إلى تيار الإسلام السياسي – وإن كان مؤسسها محمد نبوس – رحمه الله – بمنأىً عن التصنيف في هذا الاتجاه عندما أسسها في 19 فبراير 2011م وقُتل اغتيالاً بعد شهر من ذلك.

في شهر مايو من عام 2011م ظهرت قناة العاصمة الداعمة للتيار المسمى (الوطني أو المدني) في مقابل تيار الإسلام السياسي بدأت بثها من تونس، ثم انتقلت إلى العاصمة طرابلس وحققت نسب مشاهدة عالية، وهي قناة خاصة.

في شهر يوليو من عام 2012 م انطلقت قناة ليبيا الدولية المقربة من تحالف القوى الوطنية (انتقلت في شهر ديسمبر 2014 إلى عمان ثم توقفت بعد أشهر)، وحققت نسب متابعة لا يستهان بها هي الأخرى، قيل إن (رجال أعمال) قاموا بتمويلها.

وبسبب عجز شرق ليبيا عن لوازم بث الفضائيات فنياً ولوجستياً (انقطاع الكهرباء – ضعف بنية الاتصالات) انطلقت في دولة مصر المجاورة قناة ليبيا أولاً الخاصة، حيث واكبت في بداياتها هموم المشاهد بلغتها البسيطة، لكنها ظهرت بشكل متواضع بعيد عن الاحترافية لتتحسن بشكل تدريجي فيما بعد، ثم هوت تماماً بعد فضائح ابتزاز لأجل المناصب حسب تصريحات رسمية لرئيس الحكومة المؤقتة، ثم تلتها قنوات أخرى تشبهها فنياً : new tv  – وطن الكرامة.

في 2 سبتمبر 2012 انطلقت قناة الدردنيل الخاصة من مدينة بن وليد، وتبنت خطاً تحريرياً واضحاً يواجه تيار الإسلام السياسي ويكشف عوار المؤتمر الوطني خاصة القرار 7 الذي صدر في 25/9/2012 ودافعت بجرأة عن النظام السابق، ولكن بجرعات أقل في حدتها من قناة الخضراء الخاصة هي الأخرى والتي تبث من خارج ليبيا.

وبالمقابل كانت قنوات توباكتس ومصراتة ومكمداس ومقراتها في مدينة مصراتة وكلها قنوات خاصة، تدعم من تصفهم بالثوار وتطفح سياستها التحريرية بصطلحات (الثوار – الأزلام – الطاغية) لتمارس دوراً تحريضياً قوياً على الصعيد المحلي.

فيما بعد، برز صراع السيطرة على سواحل المنطقة الوسطى وموانئ النفط فأطلق رئيس حرس المنشآت النفطية – فرع الأوسط (والمقال لاحقاً من الحكومة المؤقتة) ابراهيم جضران، قناة باسم الرؤية ثم تحولت إلى قناة برقة الفضائية، تبنت التيار الفيدرالي في البداية، ثم انحازت بشكل كامل لمتابعة اهتمامات مالكها ومواقفه السياسية وتصريحاته، إلى أن توقفت تماماً شهر 9 عام 2016م ، بعد سيطرة قوات الجيش الليبي التابع لمجلس النواب على الموانئ.

بالتزامن مع ظهور قناة برقة انطلقت قنوات مرئية أخرى أقل تأثيراً، مثل قناة فزان التي انطلقت من سبها، بتمويل عدد من رجال الأعمال، واستطاعت في بدايتها ملامسة هموم المنطقة الظمأى للمتابعة والرصد جنوب ليبيا، لكنها تأثرت لاحقاً بما يعتبر مدّاً قبلياً على خلفية صراعات السيطرة، فخفتت حدة صوتها تدريجياً إلى أن تلاشت ثم توقفت تماماً.

فيما بعد، تحديداً في يوم 20 أغسطس 2013م أطلق تيارُ الإسلام السياسيّ قناته الأبرز “النبأ” التي يسميها البعض قناة الجزيرة الليبية من حيث الشكل والعرض والمحتوى، إذ نجحت في جذب المشاهد بتوظيفها المتقن للأحداث إلى جانب أساليب الطرح الجذابة، لكنها أخفقت في حجب أجنداتها وستر الجماعة المسيطرة على زمام إدارتها وتمويلها.

وفي الأثناء، ظهرت في مدينة بنغازي قناة Btv تلفزيون بنغازي التي استحوذت على اهتمام متابعيها جراء نجاحها في الاتزان رغم الصراعات والمرور بين التجاذبات السياسية بحياد مدهش، فلم تلعب دور التحريض أو تحسب على جهة، لكنها توقفت فجأة بسبب سقوط قذائف على مقرها في شهر يوليو 2014م ، وفي وقت لاحق ظهرت قناة BBN وتتبع كلتا القناتين المجلس البلدي لمدينة بنغازي.

وبتمويل مقرب من دولة الإمارات، انطلقت في 24 ديسمبر 2014م بالعاصمة الأردنية عمان قناة ليبيا روحها الوطن التي اعتمدت على خبرة عناصر ليبيا الأحرار المستقيلين، واستطاعت لمّ الشتات الإعلامي خلال عام 2015م فحظيت بمتابعة كبيرة، لكنها لاحقاً وصفت بالمدافعة عن اتفاق الصخيرات السياسي، ما أرغمها على توخي الحياد لتفنيد الاتهام بالانحياز لأحد الأطراف السياسية..

في أواخر عام 2014م ظهرت قناة الرسمية – الثانية، وهي التابعة للحكومة المؤقتة بالبيضاء ومقرها المبدئي تونس العاصمة ثم انتقلت إلى عمان – الأردن، ثم عادت إلى مدينة بنغازي في أواخر عام 2015م ومعها قناتا: ليبيا المرح وليبيا الوثائقية.

في 6 اغسطس 2015م انطلقت بالعاصمة الأردنية عمان قناة ليبيا 218 التي ظهرت بوجوه شبابية وبرامج خفيفة وصفت بالمتحررة تخاطب شريحة الشباب – بتمويل غير معلن – وتقول الصفحة الرسمية لها ضمن التعريف أنها “ليبية التوجه والهوية تهتم بالخبر السياسي وتحليلاته دون إغفال الجانب الترفيهي وهي موجهة إلى كافة الشرائح”.

ثم في يوم 16 ديسمبر من عام 2015م أطلقت شبكة الرائد من مقرها باسطنبول التركية قناة الرائد التي لم تخفِ دعمها لتيار الإسلام السياسي من خلال برامجها الحوارية وأفلامها الوثائقية، خصوصاً بعد محاولة الانقلاب التركية الفاشلة، لكنها لم تكشف عن مصدر تمويلها الأساسي.

في مطلع شهر 3 من عام 2016م ظهرت قناة ليبيا الإخبارية بتمويل من مؤسسة الإذاعة والتلفزيون بهيئة الإعلام والثقافة التابعة للحكومة المؤقتة ومجلس النواب.

وفي فترة قريبة متصلة انطلقت قناة ليبيا الحدث ومقرها مدينة بنغازي وهي مقربة من قيادة القوات المسلحة التابعة لمجلس النواب، يقال إن تمويلها يتم عن طريق عدد من رجال الأعمال.

وفي 3 من أبريل عام 2016م ظهرت قناة ليبيا الاقتصادية – ومقرها عمان الأردن، تهتم بالشأن الاقتصادي الليبي ولم يتم الإعلان عن جهة تمويلها بشكل واضح.

قناة ليبيا الوطنية (الجماهيرية سابقا) وقناة ليبيا الرسمية (الليبية سابقا) وقناة ليبيا بانوراما وليبيا الأولى، مقرات كل هذه القنوات في العاصمة طرابلس، وأعلنت تبعيتها لحكومة الوفاق الوطني ومجلسها الرئاسي المنبثق عن اتفاق الصخيرات المغربية.

هذا إلى جانب قائمة أخرى طويلة من القنوات التلفزيونية، منها العاملة ومنها المتوقفة، مجهولة أو غامضة التمويل على سبيل المثال لا الحصر: ليبيا الرياضية (المنشأة سابقا) – ليبيا 24 – ليبيا TV – ليبيا فبراير – صوت القبائل – أويا – أحفاد المختار – لبدة FM – ليبيا شات – ليبيا AIR – ليبو TV – ليبيا FM – LRT – ليبيا تنتخب – كروان.

الحقيقة إن المشهد الإعلامي الليبي والتلفزيوني تحديداً أكثر تعقيداً مما يبدو، فالقنوات الخاصة لا تكشف عن مصادر تمويلها والقنوات العامة أضعف فنياً من التصدي وهي نفسها عرضة للتطويع بسبب الانقسام الحاد، وهنا لا يمكن لعلي بابا أن يستبشر خيراً بفتح بابِ مغارة الأربعين، فلو استثنينا القنوات المتلونة حسب اعتباراتها الخاصة، سنجد أغلب القنوات الليبية اليوم تصطفّ خلف واحد من الاتجاهات الثلاثة: النظام السابق، أو من يسمون أنفسهم بالثوار، أو عملية الكرامة.

بيد أن الأجندةَ السياسية لمن يمولون تلك القنوات باتت تصنعُ الرأيَ العام وتشكله بعنف، في ظل التقنية المتصاعدة والتضليل السياسي والإعلامي المطاط، وهو أمرٌ يحولها إلى وسائل تحريضٍ وتعبئةٍ وتغيير، وفي أحيانٍ كثيرة إلى وسائل فتنةٍ ووقودٍ للانفجار والحرب بين الليبيين، ما لم توضع الأطرُ والسياسات الحازمة وتنفّذ.