قبيل غروب الشمس بساعة أو نحوها في مدينة اجدابيا (165 كلم غرب بنغازي)، تصطفّ يومياً عشرات السيارات في شهر رمضان، ويزدحم المتفرجون من الشباب والأطفال حول ساحة موقف السيارات الإسفلتية أمام مقر جامعة اجدابيا الخارجي، يأتون خصيصاً للاستمتاع بمشاهدة “تمتيع” السيارات، وشمّ رائحة الإطارات المحترقة بفعل الاحتكاك بالإسفلت، وهو مسلسل مسائي يومي حيّ، يشاهدونه بانتظام فقط خلال الشهر الفضيل.

“التشحيط” أو “التفحيص” أو “الهجولة” أو “التسطريب” أو “التمتيع”، كلمات لا جذر لها في اللغة العربية، لكن شعوباً عربية تستخدمها للتعبير عن الحركات التي يتقصدها سائقو السيارات للانزلاق أثناء القيادة، حيث يتم تغيير الاتجاه باستعمال فرامل اليد “فرينّو مَاني” وعجلة القيادة “الدُّومان” أو “الاسْتِيرسُو”، وكل ذلك بهدف نيل الإعجاب و استعراض المهارات، بالرغم مما يكتنفه من خطورة.

نادٍ خاص

يقول زيدان (20 سنة) لـ”مراسلون” الذي واكب هذا النشاط لأيام، إن السبب الرئيسي لممارسة هذه الهواية هو المخاطرة والمغامرة الجنونية، “وهذا وحده يجعلني مدمناً عليها”.

ويضيف أن قبل الشروع في حلقة “التمتيع” تُتخذ ترتيبات وتجهيزات أساسية، تتضمن استبدال إطارات السيارات بأخرى ملساء، واختبار المحرك ودواسات البنزين وفحص معدلات سوائل السيارة.

وككل هواية من هذا النوع لا بد من وجود مترئس يقود مجموعة الهواة ضمن منطقته الجغرافية، وحلقة التمتيع باجدابيا يترأسها وينظم حلباتها خالد (25 عاماً) الذي أوضح أن هوايتهم هي قيادة سيارات BMWs خاصةً بهذه الطريقة، “نحن حريصون على سلامة الجميع” يؤكد خالد، ولكن ما يطلبونه أن يكون لديهم نادٍ خاص، ويردف أن “التمتيع” مثل الفروسية والألعاب الرياضية الأخرى.

يقول المهندس زكريا الدليمي (42 سنة) “هذا النشاط يمكن اعتباره رياضة، لكنه بحاجة للتنظيم وتخصيص ساحات وملاعب مجهزة خارج المدينة، وبعيدة عن العمران مع اتخاذ مواصفات تضمن سلامة السائقين والمتفرجين.

استهتار وتبذير

ورغم أن كثيرين من عامة الناس يحبون مشاهدة التمتيع في شهر رمضان ولا يتذمرون من افتقار المكان للكراسي والتنظيم أو احتياجات السلامة الأساسية، إلا أن هذه الرياضة تثير موجة من الجدل في أوساط المتابعين، بين معجب مستمتع وساخط حانق، فالفريق الأول يعتبرها هواية ولعبة تستحق التأطير وصولاً إلى تنظيم البطولات والمنافسات المحلية والدولية وتكريم الأوائل.

أما الفريق الثاني فينظر إلى ظاهرة “التمتيع” بسخط وحنق شديدين، ويراها خطراً على حياة السائق نفسه والسائقين الآخرين ومستخدمي الطرقات العامة، وهو ما يستدعي معاقبة فاعله، بسبب مخالفة القانون الذي يجرم هذا الفعل، كما يرى فيها تبذيراً للأموال وإضاعة للوقت.

يقول د. محمد سالم عضو هيأة التدريس بجامعة اجدابيا “ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس، فلو طلبنا من عاقل أن يحطم سيارته لينال استحسان الناس لما فعل”.

ويتساءل هل يستوي هذا الذي يتفادى وقوعها في مطب، مع من يتعمد تدميرها وخرابها؟ ويجيب على نفسه “لا يستويان مثلاً، فلو كان سباقاً في السباحة أو الرماية أو ركوب الخيل لكان خيراً لهم”، ويرفض وصف هذه الرياضة سوى بأنها “عادة سيئة”.

ويقول الإعلامي علي دومة متعجباً إن هذه “أموال زائدة على أصحابها، بدلاً من التصدق بها على المحتاجين، أو إنفاقها في مجالها يقومون بتبذيرها على هذا النحو”.

أما السيدة أم إسراء التي تحرص ابنتها على مشاهدة “التمتيع” فتقول أتمنى من أولياء الأمور الالتفات إلى أبنائهم، فهم سيجرون إليهم المشاكل بسبب استخدامهم الجنوني للسيارات بهذه الطريقة.

رؤية دينية

يقول محمد ذياب وهو خطيب مسجد لـ”مراسلون” إن “التمتيع هو إهدار للوقت والمال والجهد وربما ترتب عليه أضرار بدنية تلحق بالسائق أو بالجمهور المتابع، وأي أمر يسبب الضرر فلا شك أنه محرم شرعاً لقاعدة (لا ضرر ولا ضرار) ، كما أن القانون يجرم أى عمل قد يلحق ضرراً جسيماً ببدن الانسان، يضاف إلى ذلك مسألة الازعاج وإقلاق راحة الناس الناتج عن هذه الممارسات”.

يرفض الخطيب تنظيم هذه الظاهرة حيث لا يمكن التقيد بالأماكن المحددة لو تم ذلك بسبب غياب المؤسسات وغياب الوعي حسب اعتقاده، ولكن “أخذاً بقاعدة (أخف الضررين) يمكن الأخذ بهذا الاقتراح إلى أن يتم منع التمتيع نهائياً بقوة القانون” يقول ذياب.

وعلى ذكر القانون، يقول أحد المحامين – فضل عدم ذكر اسمه – وهو من ذوي الخبرة إن اتصالاً ورده من شخص يطلب محامياً للدفاع عنه بعد أن قُبض عليه وهو يقوم “بالتفحيط” بالسيارة، المحامي توقع أن يكون المتصل مراهقاً فرحاً بسيارة جديدة، لكن باستلامه للقضية اكتشف أن المتهم رجل سويّ راشد قام بإحداث حركات الانزلاق المتعمد بسيارة يقودها في مكان عام خالٍ من السيارات، وفي صحبته زوجه الحامل، وعند السؤال عن السبب قال إن زوجته حامل في شهرها الرابع و”توحّمت” على رائحة احتراق إطارات السيارة أثناء انزلاقها، فقام “بالتفحيط” لإرضائها.

حركات جنونية

في ختام أحد الأيام التي شهدها “مراسلون” في ساحة التمتيع دخلت سيارة خضراء من نوع BMW بهدوء، وبدأ سائقها تنفيذ حركات الانزلاق يميناً ويساراً متجهاً إلى المنتصف، ثم بدأت السيارة تدور في حركة انزلاقية حول أحد الواقفين في منتصف الساحة بسرعة تزداد تدريجياً مع عاصفة من دخان الإطارات المحترقة، وتواصل حركة انزلاقها المحورية الأفقية لترتكز على مقدمة السيارة فقط في مشهد هوليودي، علت حينها أصوات الانبهار خصوصاً عندما خرج السائق وترك سيارته تدور لوحدها في تلك الحركة الدائرية الأعجوبة لأكثر من 7 دورات كاملة ثم قفز فيها ليخرجها من الساحة!

غادرت السيارة وسط مزيج من التصفيق وصرخات الإعجاب والتصفير، فيما ظلت الخطوط السوداء على أرضية الساحة، تحكي قصة الإطارات المحترقة، وسيارات يقودها سائقون لا يأبهون للخسائر المادية أو المحركات أو الإطارات أو حتى من يعتبرهم في عداد المجانين، وفي الأفق يغوص قرص الشمس للأسفل إيذاناً بنهاية يوم آخر من أيام شهر رمضان ليتفرق الحشد على وعد اللقاء في اليوم التالي.