تتواصل في عدد من مدن شرق ليبيا حملة إزالة المباني المقامة بالمخالفة في سبيل القضاء على العشوائيات، وذلك ضمن المرحلة الأولى من مشروع الإزالة التي شملت مدن المرج وبنغازي واجدابيا، تحت إشراف المجالس البلدية وأجهزة الحرس البلدي بالتعاون مع مديريات الأمن، وهي حملة حظيت باهتمام شعبي في المدن المذكورة بوصفها بادرة نحو تطبيق القانون على المخالفين.

تتواصل في عدد من مدن شرق ليبيا حملة إزالة المباني المقامة بالمخالفة في سبيل القضاء على العشوائيات، وذلك ضمن المرحلة الأولى من مشروع الإزالة التي شملت مدن المرج وبنغازي واجدابيا، تحت إشراف المجالس البلدية وأجهزة الحرس البلدي بالتعاون مع مديريات الأمن، وهي حملة حظيت باهتمام شعبي في المدن المذكورة بوصفها بادرة نحو تطبيق القانون على المخالفين.

لا شك أن إرساء دعائم القانون في أي دولة ناشئة، هو موضوع قبول شامل على مستوى المبادئ، ولكن الاختلاف غالباً يكون حول الانطلاقة التي تنبي عن أول الغيث، ونحن هنا نشير إلى هيبة القانون انطلاقا من تبصير المواطن، مروراً برجل السلطة وأداة التنفيذ وانتهاء بالتسليم والانقياد الكاملين، شريطة إضفاء هالة من القدسية الاجتماعية على النصوص المنظمة لحياة المجتمع.

في البداية، لنتفق أننا شرعنا في تطبيق القانون بشكل أو بآخر، ومجرد اكتشاف أن “حالتنا مزرية” هو تشخيص مبدئي صحيح، يعني أننا وضعنا أيدينا على الجرح الدامي.

وأول الغيث على الصعيد البلدي – نسبة إلى جهاز الحرس البلدي المختص بمتابعة كل ما يتعلق بالمحال التجارية والأبنية العقارية – هو استمرار حملة إزالة العشوائيات التي تقودها جرافة صفراء يطلق عليها الليبيون مسمى “الكاشيك”، وهي كلمة تركية المنشأ.

حملة “الجرافة الصفراء” تشرف عليها المجالس البلدية، ومكاتب الحرس البلدي وشركات الخدمات العامة، تحت غطاء يفترض أنه رادع توفره مديريات الأمن في عدة مدن شرق ليبيا.

وبالرغم من رغبة الجميع في تفعيل القانون، واستبشارهم بحملة الجرافة “الأمل”، كما عبّرت مواقع التواصل الاجتماعي، إلا أن (لكن) هي السباقة دائماً في عُرف شعب احترف أبناؤه ممارسة دور المحلل والمنظّر، في كل المجالات تقريباً خلال السنوات الخمس الماضية.

باستقراء الواقع المعاش؛ تجد كثيراً من ذوي الدخل الصفري – وفي أحسن حالاته يسمى المحدود – اتجهوا لإنعاش دخلهم المهترئ في مقابل طلبات الحياة اليومية، بإقامة مشروع يدرّ شيئاً من الدينارات علها تنفخ الروح في الموات الاقتصادي للأسرة، والحديث هنا عن عاصفة من الأزمات، فثمة إسطوانة غاز للطهي يصل سعر عبوتها أحياناً الى 80 ديناراً (58 دولار أمريكي) بدلاً من دينارين ونصف، وثمة رغيف للخبز يتجاوز سعره أحياناً سقف ربع الدينار، إلى جانب غلاء أسعار الملابس والأغذية، ناهيك عن الدواء.

والحل هنا في فقه المحتاجين يكمن في فتح كشك صغير على أحد أرصفة طرق المدينة الرئيسية لبيع السجائر أو السندوتشات، أو تحوير سور المنزل على شكل محل لبيع المواد الغذائية، أو بيع مياه الشركة العامة للمياه بعد معالجتها، بل ربما استغل أحدهم ساحة الحي أو السوق وأقام فيها خياماً لبيع الخضروات، لمواجهة الاقتصاد الهش، “والضرورات تبيح المحظورات”.

كل ذلك لتحسين دخل الأسرة من جهة، وتوفير مبالغ مالية محدودة لمواجهة نقص السيولة المالية التي تعاني منها المصارف الليبية من جهة أخرى، والأخيرة زلزال لا يزال يعصف باقتصاد الأسر الليبية على مدى سنوات لا يعلم أحد نهايتها، في ظل هذه الظروف لن تستحضر ذاكرة المحتاج إلا قولاً مأثوراً واحداً هو “الغاية تبرر الوسيلة”.

لا شك أن أحلام كل أولئك البسطاء ستذهب أدراج الرياح بقدوم الجرافة الصفراء، ناهيك عن التكاليف المدفوعة لإقامة المشروع المنقذ والمديونيات المتراكمة في سبيل البقاء حياً وأسرتك، وهذا يحتم على الجهات المسؤولة وضع خطط بديلة بموازاة عمليات الإزالة الصفراء حتى لا تضيع الأسر في غيابات جُبّ الأزمات الاقتصادية المتسلسلة بشكل مريب، وتلك قصة أخرى.

ما دامت الجرافة الصفراء قد وجدت طريقها إلى إزالة العشوائيات، وبدأت عملها فلن يوقفها إلا الشديد القوي كما يقال، لكن أخوف ما أخاف أن تنحرف تلك العملية، فبدلاً من جرف كل المخالفات يتم استثناء (زيد وعبيد) لاعتبارات اجتماعية، فمجتعاتنا – شرق ليبيا خاصة – لا تزال ترزح تحت وطأة العلاقات الاجتماعية ومظلتها الوارفة، فلا ينبغي أن يُعامَلَ ابنُ العم وشيخُ القبيلة والصديقُ ومن في حكمهم مثل بقية خلق الله!.

وأخاف أيضا أن يُستثنى (فلان وعلان) لاعتبارات مليشياوية، كونه ينتمي إلى تلك المجموعة المسلحة التي تملك الأسلحة أو الجاه أو الغطاء المشبوه كيفما كان، ونحن نتحدث عن دولة خارجة من أتون معارك خاضتها تركيبة عجيبة من الكتائب المسلحة ولأغراض مختلفة.

وأخاف أن يُستثنى فلان لأنه قام بالبناء وخسر مبالغ تعدت مئات الآلاف في مشروعه، فبنى عمارات ومنازل ومكاتب مكلفة، بينما تُزال الأكشاك والخيام الصغيرة بسبب قلة تكاليفها.

ينبغي إذن أن يطبق القانون على الجميع وإلا فكأن أبا زيدٍ ما غزا.

انطلاقة الجرافة الصفراء تستلزم مواءمةً أخرى موازيةً لا تقل أهمية، أصوغها على شكل حزمة من الأسئلة المعلقة:

– هل شرحنا أضرار هذه العشوائيات اقتصادياً وعمرانياً؟

– لماذا لا تضع منظمات المجتمع المدني برامج تثقيفية دورية عبر وسائل الإعلام تكون على الصعيدين الشعبي والرسمي لشرح الأمر؟

– كيف نضمن عدم عودة المواطن ذاته إلى ممارسة نفس النشاط المخالف بعد فترة؟

– ما هو دور الأوقاف من خلال منابر الجمعة التي يأتيها الناس راغبين؟

– هل هناك اهتمام بتبصير رجل الأمن كي يعرف دوره ولا يتعداه أو يقصر دونه؟ ومن يغطيه أمنياً؟

ولأني لا أظن أن شيئاً من تلك الأسئلة العميقة قيد التباحث الفعلي، عوضاً عن التطبيق على المدى المنظور، فلن أتمادى في هذا الاتجاه.

ختاماً؛ إن قيام الجرافة الصفراء بإزالة المباني العشوائية والمخالفة واتخاذ قرار رسمي بغطاء قانوني وأمني، سيرسّخ لدى المتابعين مفهوماً جيداً هو أن رياح القانون ستعصف بالمخالف طال الزمان أو قصر، ومهما كان وزنه، وهذا في حد ذاته مطلب مهم ومبشِّر.

لا زلت أقول ليس المهم أن نصل، لكن المهم أن نبدأ السير على الطريق الصحيح، فمثلما يكون أول الغيث قطرة قد يكون أول الغيث أصفرا!، من يدري؟