“أغلب المدمنين ممن تقدموا للعلاج عادوا للتعاطي مرة أخرى” هذا ما خلصت إليه دراسة نشرها “منتدى مكافحة المخدرات والوقاية منها” وهو منتدى تعليمي وقائي علاجي تأهيلي نفسي اجتماعي، حسب التعريف به، حملت الدراسة عنوان “إحصائيات وأرقام حول المخدرات” في سياق الحديث عن الخصائص المحلية للمدمنين في المجتمع الليبي.

سالم (36 عاماً) هو أحد هؤلاء المنتكسين. كان ميسوراً من الناحية المادية، حضر بإرادته لتلقي العلاج في مصحة الإرادة ببنغازي بعد إدمانه لمادة الهيروين، قضى فترة البقاء داخل المصحة ثم انتقل إلى الجلسات العلاجية، وواظب عليها لنحو 3 سنوات، تزوج خلالها واستقامت حياته بشكل مذهل أو كادت.

طريق العودة

إلى أن جاء ذلك اليوم حيث كان يقود سيارته في طريق البحر بمنطقة سيدي اخريبيش ببنغازي ليُقل زوجته من مكان عملها، فإذا به يلمح فجأة في جانب الطريق أحد التجار الذين كان يشتري منهم مخدر الهيروين، خلال فترة التعاطي، يقول سالم بعد أخذ نفس طويل من سيجارة بين أصابعه “تساءلت في نفسي عن ظروف التاجر الذي جمعتني به علاقة طيبة في الماضي، وقررت عند أول مفترق إشارة ضوئية أمامي العودة إليه بدلاً من استكمال الطريق نحو زوجتي التي تنتظرني”.

عاد إليه وناداه من الجانب الثاني للطريق، وجاء التاجر وركب السيارة سائلاً “ما شاء الله، أراك أصبحت سمينا يا سالم؟” فأجابه أنه ترك المخدرات .

يقول سالم وهو ينفخ سحابة من دخان سجائره “ضحك من كلامي ثم أخرج كيساً صغيراً به هيروين ناولني إياه فأخذته وشممت منه كمية بسيطة، وما أن دخلت المادة إلى حلقي حتى انتبهت لنفسي فدفعت المال للرجل وتركت بقية الهيروين وطلبت منه مغادرة سيارتي فوراً..”.

يتابع سالم “عدت إلى زوجتي وأخذتها إلى المنزل لكني كنت قلقاً ومنزعجاً بشكل ملفت، وسرعان ما رجعت إلى صاحبي وأخذت منه بقية الهيروين ثم رجعت إليه مرات ومرات..”.

الذكريات والحنين

يعرّف  د. عماد السكاف (أخصائي طب نفسي) الانتكاسة بأنها “عودة المعتمد (المدمن) على المواد المخدرة إلى استعمال هذه المواد، بعد نجاحه في الانقطاع عن استعمالها لفترة محدودة، ويبقى الشخص معرضاً للانتكاسة مهما كان سبب التوقف عن استعمال المواد المخدرة”.

ويعزي محمد الفزّاني (أخصائي نفسي ومعالج للمدمنين بمصحة الإرادة للعلاج والتأهيل النفسي – بنغازي) أسباب انتكاسة المدمنين إلى “عودتهم لنفس الجماعة السابقة، وقصر مدة العلاج في بعض المصحات، وعدم وجود الرغبة الصادقة في التخلص من المخدرات” بمعنى أن السيطرة على الأماكن والأشياء والذكريات من العوامل المساعدة على تجنب الانتكاسة.

فحسب الفزاني لن يعود المدمن بعد علاجه لو تم إبعاده تماماً عن الأماكن التي تعاطى فيها، وعن الأشخاص المرتبطين بالتعاطي سواء كان اشترى منهم أو تعاطى معهم، وعن الأشياء التي تذكر المدمن بالتعاطي كالمحفزات (مثلا رنة الملعقة قد تذكر متعاطي الهيروين)، إلى جانب الذكريات مثل مقطع أغنية اعتاد الاستماع إليها أثناء التعاطي وهكذا.

ويكشف محمد الفزاني أن نسبة الحالات المنتكسة أثناء العلاج – عالمياً – تقدر بـ 60% كونها إحدى مراحل العلاج، ومصحة الإرادة “استقبلت 1900 حالة من مختلف المدن الليبية بكل أنواع الإدمان، لكن لا توجد لدينا إحصائية دقيقة للانتكاسة بسبب إتلاف محتويات المقر وحرق المكاتب والملفات خلال فترة الاشتباكات التي شهدتها المنطقة عام 2014 “.

قصة نجاح

كلام الأخصائيين تثبته قصة سعيد (42 سنة) الذي نجح في مغالبة الانتكاسة وروى قصته لـ”مراسلون” قائلاً “كنت أسكن في العاصمة طرابلس وتعاطيت الهيرويين لفترة طويلة امتدت لخمس سنوات، ثم حضرت إلى مصحة الإرادة طواعيةً وتلقيت العلاج وعندما رجعت إلى مكان إقامتي انتكست بسبب وجودي في نفس المجموعة”.

يواصل سعيد مستدركاً “بعد ذلك عدت مجدداً إلى المصحة ثم اتبعت برنامج تغيير نمط الحياة الذي أوصاني به الأطباء النفسيون.. انتقلت للعيش في مدينة بنغازي وتركت البيئة السابقة كلها، حتى إنني تزوجت من هنا فتغيرت حياتي بشكل كامل، ولم تعد تحاصرني ذكريات المكان ولا الأشياء ولا البيئة لأنني تركتها في مكان سكني الأول، وأعتقد أن هذا هو سبب نجاحي في مواجهة الانتكاسة بعد توفيق الله عز وجل..”.

الابتعاد لا يكفي

ولكن الفزاني يؤكد أن فك الارتباط قد لا ينجح في كل الحالات فقد ترتبط الانتكاسة “باضطرابات نفسية غير مشخصة، مثل الاكتئاب والقلق وعند معالجة الإدمان فقط – في حالة الحشيش أحياناً – يعود الشخص وينتكس بسبب معاناته من الاضطراب النفسي غير المشخص أصلاً، وطبعاً هناك أسباب اقتصادية واجتماعية ونفسية ولايمكن القول إن فك الارتباط وحده يمنع الانتكاسة”.

مرعي (32 سنة) شاب تلقى العلاج بمصحة الإرادة كذلك وكان قبلها من متعاطي الحشيش، قام معالجوه بفك كل ارتباط بالتعاطي لدرجة تغيير رقم الهاتف للتخلص من أسماء التجار ورفاق التعاطي، وبعد قضائه مدة الإقامة الداخلية 45 يوماً، أصبح يتردد لحضور جلسات العلاج على مدى 6 أشهر.

ويسرد مرعي قصة انتكاسته قائلاً “كان لدينا مناسبة فرح حضره رفاقي الذين كنت أتعاطى معهم من سنة ماضية، فذكروني بمواقف وأماكن ذهبنا إليها خلال فترة التعاطي”.

يواصل مرعي قائلاً “لقد جاؤوا بعد تعاطيهم الحشيش، وطلبوا مني العودة ولا زلت أذكر أن أحدهم قال لي هي ليلة وفراقها صبح (بمعنى شاركنا هذه المرة وليس بالضرورة أن تعود لتعاطي الحشيش)، لنسترجع الأيام الخوالي”، ولم يتمكن مرعي من الصمود حيث يقول “تعاطيت برفقتهم الحشيش في تلك الليلة والتي تليها ثم عدت للإدمان”..

من هنا أخذت سلوكيات الشاب تتغير، حيث فقد المصداقية في التعامل وبدأ يكذب ويسرق ويحتال للحصول على المال، ثم اضطر للعودة إلى المصحة ليعترف بانتكاسته وانتقاله إلى تعاطي “الترامادول” ثم يبدأ رحلة العلاج مجدداً.

فقر الإمكانيات

ورغم كون مصحة الإرادة هي المصحة العامة الوحيدة العاملة في شرق ليبيا، وتستقبل المتقدمين للعلاج طواعية، أو المبلغ عنهم عن طريق أسرهم أو الذين تضبطهم الجهات الأمنية، إلا أنها تعاني فقراً في الإمكانيات قياساً لحجم العمل الذي تقوم به.

يقول د. جمال بلقاسم مدير مصحة الإرادة للعلاج والتأهيل بنغازي “المصحة تتبع مستشفى الأمراض النفسية ببنغازي ووزارة الصحة، ونحن موعودون بالدعم لكن الإمكانات الحالية محدودة جداً وضعيفة، فنحن نفتقر إلى الأدوية والمعدات والمقرّ بحاجة للصيانة”..

ويظل مجال علاج مدمني المخدرات أحوج ما يكون – إلى جانب المعدات والأدوية – إلى دراسة مسببات الانتكاسة ودوافعها وآثارها، ولوضع خطط متابعة ورصد تشمل الحالات المعالجة، هذا إلى جانب تكاتف جهود المؤسسات الصحية والتوعوية والضبطية لتجنب انتكاسة الإدمان.