أمام مدارج المجلس الوطني التأسيسي (البرلمان التونسي السابق) يجلس النائب محمد الصغير على كرسيه المتحرك. ينتظر في قنوط نائبين زميلين له بالمجلس ليحملانه إلى الطابق العلوي حيث قاعة المداولات التشريعية.

أمام مدارج المجلس الوطني التأسيسي (البرلمان التونسي السابق) يجلس النائب محمد الصغير على كرسيه المتحرك. ينتظر في قنوط نائبين زميلين له بالمجلس ليحملانه إلى الطابق العلوي حيث قاعة المداولات التشريعية.

في انتخابات 23 أكتوبر / تشرين الأول 2011 ترشح محمد الصغير عن حركة النهضة وتمكن من الفوز، وفي الأثناء ألمّ به مرض أحاله مقعدا في كرسي متحرك يدفعه مرافق حيثما حل. يقول النائب الصغير لمراسلون ” حين دخلت المجلس سليما على قدمي لم أنتبه إلى غياب ممشى خاص بالمعوقين” لكنه أحس بالمعاناة حين أجبر على التنقل على كرسي، كما يقول.

لن يترشح مرة أخرى

أكد محمد لـ”مراسلون” قبيل انطلاق الانتخابات الأخيرة أنه اختار أن لا يجدد التجربة وأن يترك المساحة للأصحاء والأقوياء والشباب من أبناء الحركة الإسلامية ليخوضوا السباق الانتخابي التشريعي فيما سيواصل هو من موقعه دعمهم ومساندتهم حتى آخر أنفاسه.

لكن غياب ممر خاص بالمعوقين في المجلس الوطني التأسيسي ليست المعضلة الوحيدة التي تواجه فئة حاملي الإعاقة في تونس، والذين يقدر عددهم ما يقارب مليون و400 ألف أي ما يناهز 13,5 بالمائة من مجموع السكان.

ورغم أن الدستور التونسي الجديد أكد على حقوق المعوقين في الفصل 48 وألزم الدولة بحماية الأشخاص ذوي الإعاقة من كل تمييز، وكفل لكل مواطن ذي إعاقة الحق في الانتفاع، حسب طبيعة إعاقته، بكل التدابير التي تضمن له الاندماج الكامل في المجتمع، وأوجب على الدولة اتخاذ جميع الإجراءات الضرورية لتحقيق ذلك، إلا أن هذه الحقوق والنصوص أبعد ما يكون عن الممارسة والنفاذ.

لم يفكر المشرعون من النواب المؤسسين خلال السنوات الثلاثة التي عقبت الثورة في مستقبل ذوي الاحتياجات الخصوصية كمواطنين لهم نفس الحقوق والواجبات، يمكنهم تفعيل مواطنتهم والمساهمة من موقع القول والفعل وبالترشح لعضوية البرلمان القادم، واليوم ليسوا كذلك محل انشغال أو تفكير من النخبة السياسية التونسية.

برامج غيبت المعوقين

حتى حركة النهضة التي التاع أحد نوابها من تجربة الإعاقة العضوية لم تفكر بأن يكون لها مرشح حامل لإعاقة لان ذلك يمكن أن يعيق تنفيذ برنامجها الانتخابي الذي خلا من أي إشارة إلى ذوي الاحتياجات الخصوصية أو حاملي الإعاقات العضوية أو الذهنية.

ورغم المعاناة اليومية للنائب محمد الصغير عضو كتلة النهضة صاحبة أغلبية المقاعد في البرلمان السابق بسبب عدم تهيئة ممرات خاصة بالمعوقين، إلا أن نواب المجلس لم يتحركوا لتدارك هذا الخطأ الجسيم، وقد تكون تلك أحد الأسباب التي دفعت النائب الصغير لعدم الترشح مرة أخرى تجنبا لإحراج ومذلة توسل نقله من مكان لآخر.

وتعتبر الناشطة بالمنظمة التونسية للدفاع عن الأشخاص ذوي الإعاقة أمنة قهوجي أنه لا يمكن أن تبنى تونس في معزل عن أبنائها من ذوي الإعاقات، وقالت لـ”مراسلون” أن برنامج النهضة الاجتماعي والاقتصادي للسنوات الخمس القادمة آتى على كل شيء ونسي المعوق، وتقاسمت جميع الأحزاب منهجيّة السطحية في التعاطي مع حاملي الإعاقات في البرامج الانتخابية.

غير أن برنامج حزب التكتل من اجل العمل والحريات أفرد المعوقين بنقطة انتخابية تقوم على تنقيح قانون النهوض بالمعوقين وحمايتهم الذي يفرض ادماج وتشغيل 1 بالمائة من حاملي الإعاقات في الوظيفة العمومية واقترح الحزب الترفيع في النسبة إلى 3 بالمائة.

بينما تعاطت بقية القائمات المترشحة لانتخابات مجلس نواب الشعب بسطحية مع حاملي الإعاقات ولم توليها المكانة التي يستحقها ليضيع المعوق في زحام الحراك الانتخابي الذي يعرف أشده في تونس الثورة.

مغامرة الترشح

قالت صناديق الاقتراع كلمتها الأخيرة واختار التونسيون في النهاية تركيبة البرلمان الجديد لا وجود لحاملي الإعاقات تحت قبته، برلمانا يعجّ بالأصحاء والأثرياء، رجال الأعمال وأطباء ومحامون وأساتذة..

من المفهوم أن لا يتوجه الناخبون لاختيار مترشحين من حاملي الإعاقات نظرا لضعف إمكانياتهم الدعائية وعدم قدرتهم على التعريف بقائماتهم الانتخابية إلى جانب ضعف وعي الناخب التونسي بضرورات تشريك المعوقين في الحياة السياسية نظرا لتراكمات عقود من الإقصاء والتهميش لهته الفئة.

رغم عدم فوزه بمقعد في البرلمان الجديد، فقد لمع صيت “محمد رحامنية” (حامل لإعاقة) ورئيس قائمة الحزب التونسي بمحافظة منوبة (غرب العاصمة تونس) الذي اشتهر خلال الحملة الانتخابية برفعه شعار “المقص”، وأعلن حملة لتطهير جميع مؤسسات الدولة الداخلية والقضاء والإدارات حتى أصبح محل سخرية في مواقع التواصل الاجتماعي، محمد رحامنية تحصل على 346 صوتا فقط أي بنسبة 0.31 بالمائة حسب النتائج الرسمية للتصويت.

رافقت شجاعة خوض المغامرة الانتخابية “سيد بوقلة” رئيس قائمة “صوت المعاق” المستقلة في الدائرة الانتخابية بمحافظة القيروان بالوسط الغربي للبلاد، سيد بوقلّة أكد لـ”مراسلون” أن صوت المعوقين أخرسته الحكومات المتعاقبة على تونس منذ أكثر من خمسين سنة، وقد “ترشحت لأنه لا أحد يمثلنا ولا يهتم لمشاغلنا ولا يفكر في مآسينا ولا يشعر لاحتياجاتنا”.

بوقلّة هو حامل لإعاقة عضوية منذ الثمانيات يتنقل بواسطة كرسي متحرك يرى أنه يمثل آلاف المعوقين في جهته وسيكون صوتهم الذي بحّ طلبا للمساواة كمواطنين في الترشح ودخول البرلمان للدفاع عن هذه الفئة الحساسة، ورغم عدم قدرته الجسدية ولا المادية لمصارعة القائمات الانتخابية في جهته، فقد خاض السباق الانتخابي على كرسيه المتحرك ولكن لم يسعف الحظ قائمة “صوت المعاق” في سباق التشريعية، فكان ترتيبها حسب النتائج الرسمية في ذيل القائمات الانتخابية برتبة 31 فلم تحرز سوى 579 صوتا فقط من جملة 123267 ناخبا شاركوا في التصويت في محافظة القيروان.

كفيفة مترشحة

وفي سابقة من نوعها في الانتخابات التشريعية الأخيرة، منح الائتلاف الحزبي “الاتحاد من أجل تونس” لكفيفة تدعى “تومانة الطبيب” فرصة الترشح ضمن قائماتها، ولكن ترتيبها كان الرابع ضمن قائمة من جملة تسعة مترشحين مما جعل حظوظ التحاقها بالبرلمان القادم شبه منعدمة منذ البداية.

مني ائتلاف الاتحاد من أجل تونس (المتكون من أحزاب يسارية ومستقلين) بخسارة انتخابية فادحة ولم يحصل ولو على مقعد وحيد في البرلمان، رغم أن المترشحة الكفيفة تومانة الطبيب خاضت صراعها الانتخابي ولم تقصر قيد أنملة في الحراك الانتخابي وشاركت في الجولات الميدانية والتحمت بالناخبين على غرار بقية زملائها المترشحين، تبددت أحلام تومانة فور التصريح بنتائج الانتخابات في أن تكون عيون الكفيف التونسي داخل مجلس نواب الشعب. وقالت لـ”لمراسلون” أنها نالت شرف المحاولة ولم تخنع لإعاقتها ولم تختف وراء الستار، حاولت أن تنفذ مشروعا كاملا لحاملي الإعاقات ولكنها ستواصل المحاولة لتبليغ صوت المعوقين حتى من خارج مجلس نواب الشعب.

نجحت تونس في إجراء أول انتخابات تشريعية منذ المصادقة على دستور 27 جانفي / يناير 2014 الذي يحمي حاملي الإعاقات ويكرس حقوقهم، ولكنها لم تنجح في تفعيل المواد الدستورية بتشريكهم في الحياة السياسية من داخل البرلمان، وبالتالي تبقى المؤسسة التشريعية على حالها حكرا على الأصحاء حتى بعد ثورة الحرية والكرامة.

تبددت أحلام حاملي الإعاقات من المترشحين في انتخابات مجلس نواب الشعب وبقيت مجرد أحلام تعيقها العقلية والإرادة السياسية التي لم ترتق بعد الى مصاف مساوة فعلية بين مواطنين تونسيين في بلد واحد يجمعهم دون أي تمييز.