وقـفَ شامخًا رغم قصرِ قامته فوقْ سجّاد التشريفاتِ الأحمر بقصر المجلس الوطني التأسيسي بالعاصمة تونس. لا تكادُ تلمحُ سوى شعره الفضيِّ بين جحافل المدعوين لحفلِ ختْمِ دستور الجمهوريّة الثانية. مرَّ الضيوف بالأستاذ مصطفى الفيلالي يُقْرؤُونه السلام ووَجههُ وضّاحٌ غطتهُ محاصيلُ الدّهرِ وثغْره باسمٌ مليئ بالحياة.

وقـفَ شامخًا رغم قصرِ قامته فوقْ سجّاد التشريفاتِ الأحمر بقصر المجلس الوطني التأسيسي بالعاصمة تونس. لا تكادُ تلمحُ سوى شعره الفضيِّ بين جحافل المدعوين لحفلِ ختْمِ دستور الجمهوريّة الثانية. مرَّ الضيوف بالأستاذ مصطفى الفيلالي يُقْرؤُونه السلام ووَجههُ وضّاحٌ غطتهُ محاصيلُ الدّهرِ وثغْره باسمٌ مليئ بالحياة.

رجلٌ وقورٌ، يدفعُك مُحْياهُ لزاما للتفكير طويلاً فيما سَيلفظه لسانُك. يختزلُ وجههُ الناصع البياض مسيرة سياسية وثقافية ونقابية تقاربُ القرن من الزمن. ألقيت عليه السلام بطريقة حسبتها تجمعُ بين الاحترام والمودة والفراسة، ثم قلت له “مازالتْ البركة أستاذنا” فأجابني “البركة في الشباب”. وأضاف بحكمةِ استلهمها من معلّقة لزهير ابن أبي سلمى: “سئمتُ تكاليفَ الحياةِ ومن يعشْ/ ثمانين حولاً لا أبا لك يسأم”،  فدُهشتُ لفطنتهِ وذاكرتهِ رغم سنّه الذي يناهزُ ثلاث وتسعين سنة، وسرعان ما خلصتُ إلى أن من يجالس الرجل لن يتسلّل السأم إلى فؤاده، لأنه دون مبالغة خزّان أحداث سياسية ووقائع تاريخية وحضارية جمعت في جُعبته كثيرا من محاصيل الحِكَمِ والمواعظِ.

خلال مراسمِ الاحتفالِ بالدستور الجديد يوم السابع والعشرين من جانفي/ كانون الثاني الفارط، التقتْ “مراسلون” مصطفى الفيلالي تحت قبّة المجلس الوطني التأسيسي، حيثُ شارك الرجلُ في كُتابة أول دستور للجمهورية التونسية (1956-1959).

كان آنذاك في ربيع عمرهِ، ساهم مع أبناء جيله في وضع حجر أساسِ الجمهورية الأولى بوصفه سياسيّا ونقابيّا وعضوًا بالمجلس القومي التأسيسي. وهو يحضرُ اليوم في نفس المكان بعد أكثر من نصف قرن، بين مؤسسي الجمهورية الثانية وكاتبي دستور “الثورة”، زعيمًا ورمزًا وطنيّا وشاهدًا على هذه اللحظة التاريخيّة.

حاولت “مراسلون” استجلاء رأي الرجل ونبش شيء من ذاكرته، انطلاقا من دستور 59 حتى دستور “الثورة” ومن حكومة بورقيبة إلى حكومة النهضة. تحدّث بصوتٍ أجشَّ لا يكادُ يُسْمع إلاّ لمنتبهٍ حريصٍ، “انتصرتْ تونس وانتصرَ لها أبناؤُها حُكَّامًا ومعارضةً. اليوم تأكدتُ أنّ تونس تسيرُ بثباتٍ على الطريق السويّ.”

كل نصٍّ، حسب الفيلالي، لديه تاريخيّة يلتمسُها من الظروف المحيطةِ بالمجتمع فليسَ هناك دستورٌ أفضل من الآخرِ، “الدستورُ الأوّل وُلد في ظروفٍ معينة، حينها كانت بلادنا تودّع الاستعمار الفرنسي، ولم تكن لدينا مؤسسات ولا جيش وطني ولا سيادة فكانت السلطة التنفيذية أقوى من بقية السلطات في الدستور، بينما الدولة اليوم مستكملة لجميع عناصر السيادة وهي تستعد لاستكمال جميع شروط الديمقراطيّة وأسبابها”

ويعتقد الفيلالي أنّ أفضل ما في الدستور الجديد هو أن للسلطة القضائيّة حجمٌ واسعٌ من الصلاحيات، “أرجو أن يحدثَ التوازنُ بين بقيّة السلطات، فهذا الدستورُ ببساطة يعكسُ واقع المجتمع التونسيّ اليوم”.   

ولد الفيلالي في 5 جويلية/ يوليو 1921، درس بجامعة “السوربون” بفرنسا وعمل إثر عودته أستاذًا للآداب والفلسفة في عدد من المدراس الثانوية في تونس. عُرف بنشاطه النقابيّ في صفوف الاتحاد العام التونسي للشغل (المنظمة النقابيّة الأكبر في تونس)، وكان قياديا بارزا،  مما أهّله ليكون في صُفوف الوزراء الذين عيّنهم الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة من بين النقابيين الثلاث الذين مثلوا المنظمة الشغيلة حين تم إشراكها في حكومة 15 أفريل/ابريل 1956.

تقّلد حينها مصطفى الفيلالي حقيبة الفلاحة ولم يتجاوز 35 ربيعا. ساهم الفيلالي من موقعه ذاك في تونسةِ الأراضي واتخذ قرار إلغاء نظام “الأحباس” (الأوقاف) ثم كلّف بين سنتي 1957 و1958 بحقيبة الأخبار (الاعلام).

غادر الحكومة، حيث اُنتخب عضوًا في المجلس القومي التأسيسي سنة 1956 ثم عضوًا في مجلس الأمّة (البرلمان) في سنة 1959 وسنة 1964. كما عمل الفيلالي بعيد خروجه من المناصب الحكومية مديرا لمكتب المغرب العربي لمنظمة العمل الدولية بالجزائر وهو حاليا عضو في مجلس أمناء مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت.

رَبطت مصطفى الفيلالي بالزعيم الراحل بورقيبة علاقةً وطيدةً ولعلها كانت علاقة روحية، فهو من بين قيادات الحزب الدستوري (الحزب الحاكم) حيث شغل بين 1971 و1972 منصب مدير الحزب الاشتراكي الدستوري، ولطالما قال في وصف بورقيبة “لم يأت الزعيم الحبيب بورقيبة لقصر قرطاج للاستمتاع بالبحر بل لبناء مجتمع حداثي” وقال دفاعًا عنه “الزعيم بورقيبة يعتبر الدين عامل حضارة وتحضر”.  

تم إقصاءُ مصطفى الفيلالي من المشهد السياسيّ لأكثر من عقدين من الزمن فترة حكم الرئيس السابق زين العابدين بن علي، لكنه بقي فاعلا بالفكر والقلم، فله مؤلفات مرجعية ككتاب “الإسلام والنظام الاقتصادي الدولي الجديد” و”المغرب العربي الكبير: نداء المستقبل” و”مجتمع العمل” و”موائد الانشراح”.

لم يتغيّب مصطفى الفيلالي عن المشهد السياسي بعد ثورة 14 جانفي/ كانون الثاني 2011، بل كان فاعلا من موقعه كرمز من رموز النضال الوطني حيث يمثّل لكثير من التونسيين صوت العقل والحكمة ويرون فيه حيادا ونزاهة أكثر من بعض أبناء جيله خاصة حين خيّر الرجلُ الابتعاد عن التجاذبات السياسية ونأى بنفسه عن كل نيّة في التموقع من جديد كما فعل الآخرون.

اعتذر عن تولى رئاسة الحكومة الحالية حيث كان من أبرز المرشحين لإخراج البلاد من النفق المظلم الذي قبعت فيه لأشهر، وذلك لاعتبارات متعددة من بينها ثقل المسؤولية والوضع الحساس الذي تمر به تونس إلى جانب عامل تقدمه في السن.

يقول لـ”مراسلون” “لست فرس رهان لأي حزب ولا أي جهة سياسية ولا رغبة لي في أن أكون كذلك، وحتى عندما قبلت التفكير في الأمر كان ذلك انطلاقا من مبدأ حرية الضمير.”  

يقول عنه الطيب البكوش أمين عام حركة نداء تونس “لا يسعني إلا أن أقدم أخلص عبارات الاحترام للسيد مصطفى الفيلالي، رجل دولة بامتياز ورمز من رموز الوطنية والنضال”.

ويؤكد البكوش أن الفيلالي طالما أبدى استعداده لخدمة هذا الوطن دونما قيود أو شروط، “لم يطالب بمنصب بعد الثورة لكنه لم يغفل عن تقديم يد العون كلما اقتضت الحاجة للدفاع عن مكتسباتها كقيم الجمهورية والحداثة.”   

ساهم مصطفى الفيلالي من موقعه في تعديل الكفة وكان محل استشارة من قبل الفرقاء السياسيين وموطن احتكام لدى بعضهم الآخر طيلة الفترة التأسيسية الثانية، كان أبرزها رسالته إلى رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي التي جاءت في قالب أدبي متين وبلغة فيها الكثير من الاحترام وبمضامين تهدف إلى التجميع وتجاوز النقطة الخلافية حول مسألة قانون تحصين الثورة.

عرف الفيلالي بتعاليقه الرشيقة ونصائحه البليغة سواء تعلق الأمر بالإرهاب أوالاغتيالات أوقضايا سياسية أخرى. ولعلّ من أبرز مواقفه حديثه عن القضاء حيث كتب في إحدى الصحف اليومية التونسية “لا دولة بلا عدل قائم مؤسس على العفة والاقتدار والتقوى، ولا أمن ولا استقرار ولا رخاء. وهل لنظام من دوام مع انحراف الضمائر واستفحال الظلم المؤذن بخراب العمران؟”.