يجلس في إحدى كنبات المجلس الوطني التأسيسي (برلمان ما بعد الثورة) النائب عن حركة النهضة مختار اللموشي، وإلى جواره كلٌ من النائب المستقل محمد نجيب حسني، والنائب عن حزب الإصلاح والتنمية محمد الناجي الغرسلي.

مشهد يبدو للوهلة الأولى أليفاً، إذ يجمع هؤلاء اليوم مشترك الإسلام السياسي. لكن في ذاكرة الأشخاص المجتمعين يكمن الفرق، فأحدهما كان في حقيقة الأمر في وقت من الأوقات ضحيةً للثاني، بشهادة الثالث.

 يجلس في إحدى كنبات المجلس الوطني التأسيسي (برلمان ما بعد الثورة) النائب عن حركة النهضة مختار اللموشي، وإلى جواره كلٌ من النائب المستقل محمد نجيب حسني، والنائب عن حزب الإصلاح والتنمية محمد الناجي الغرسلي.

مشهد يبدو للوهلة الأولى أليفاً، إذ يجمع هؤلاء اليوم مشترك الإسلام السياسي. لكن في ذاكرة الأشخاص المجتمعين يكمن الفرق، فأحدهما كان في حقيقة الأمر في وقت من الأوقات ضحيةً للثاني، بشهادة الثالث.

ففي أول دخول للنائب عن حركة النهضة مختار اللموشي إلى السجن، وكان عمره آنذاك 18 عاماً، كان النائب الحالي ناجي الغرسلي أحد القضاة المشاركين في الإقرار بسجن اللّموشي، ليحوّل بذلك مجرى حياة الرجل، في حين كان النائب المستقل نجيب حسني أحد القضاة الذين رفضوا المشاركة في المحاكمة، فاعتذر واستقال على أثرها متوجها لمهنة المحاماة.

التلميذ المعارض

تم إيقاف اللّموشي سنة 1981 اثر الإعلان عن ميلاد حركة الاتجاه الإسلامي (التي ستصبح فيما بعد حركة النهضة)، في زمن الرئيس الحبيب بورقيبة، في فترة من الغليان السياسي، وقفت فيها تونس على شفا أزمة اجتماعية واقتصادية خانقة.

قررت قيادة الحركة آنذاك المشاركة في الحياة السياسية بصفة علنية، فطلبت الحصول على ترخيص حزبي، ليتم على اثرها اعتقال ومحاكمة جميع القيادات المركزية والجهويّة للإسلاميين.

لم يتجاوز اللموشي، وقتها، 18 سنة من العمر، فكان أصغر الموقوفين بل التلميذ الوحيد الذي حوكم بـ 6 أشهر سجنا. وخلال محاكمته، وقف في حضرة قاضيين شابين هما نجيب حسني وناجي الغرسلي.

حسني الذي استقال من وظيفته كقاضٍ رافضاً محاكمة اللّموشي ورفاقه الإسلاميين قال لـ”مراسلون” واصفا علاقته باللّموشي: “لم تربطني به علاقة سابقاً. عرفته موقوفاً، ثم ترافعت عنه ضمن مجموعة كبيرة من المظلومين حين كنت أمارس المحاماة، ثم أصبح الرجل بمثابة المؤنس والصديق حين اشتدت محاصرة نظام بن علي”.

اثر مغادرته السجن، طرد اللّموشي وهو في صف البكالوريا (المرحلة الثانوية) شعبة علوم ورياضيات من مقاعد الدراسة ليغادره الأمل في التحصيل العلمي. عبثا حاول اجتياز امتحان البكالوريا سنة 1983، فبعد مُعاناة رفضت المعاهد الخاصة تسجيله من جديد.

يقول اللّموشي “إن أشدّ محرقة مارسها النظام ضدّي وضدّ مئات من أبناء جيلي من المعارضين حرماننا من الدراسة والتعليم كما حرمنا من مغادرة البلاد بهدف التحصيل العلمي، فقد حرمت من  الحصول على جواز سفر لقرابة 30 سنة”.

الجيل الثاني

حوكمت القيادات المركزية للاتجاه الإسلامي سنة 1981 بأحكام مثقّلة على غرار زعيم الحركة راشد الغنوشي وعبد الفاتح مورو وصالح كركر، ووجد اللّموشي نفسه غداة خروجه من السجن في الصف الثاني من القيادات أو كما يسميه الإسلاميون جيل “التأسيس الثاني”.

كان اللّموشي من بين الماسكين بقيادة الحركة والشأن التنظيمي السري مع عبد اللطيف المكي والعجمي الوريمي وعبد الكريم الهاروني (قيادات الصف الاول الآن في حركة النهضة).

لم يهنأ بال الرجل منذ أن سُجن أوّل مرة فقد قضىّ حياته سجينا أو مفتشا عنه أو مراقبا مراقبة لصيقة. بصيص أمل وحيد لاح أمامه حين تم انتدابه كمعوّض للتعليم الابتدائي، فأمضى سنتين مدرسا في أرياف الشمال الغربي للبلاد، حتى تفطنت السلطات لملفه فتمت ملاحقته من جديد.

عرفت الحركة هدوء نسبيا سنوات 1985 و1986 لينطلق اللّموشي صحبة رفاقه من الإسلاميين في وضع المنهج الفكري والرؤية الأصولية لحركة الاتجاه الإسلامي، فتعمق لديهم خيار الإصرار على العلنية والمشاركة في الحكم.

لم تعمر الهدنة طويلا فسرعان ما استهدف النظام الإسلاميين من جديد واُعتقل رئيس الحركة في ربيع 1987 واندلعت المواجهة ميدانيا مع النظام في الشوارع دامت أكثر من 8 أشهر وحتى سقوط نظام بورقيبة.

عبد النور

من طرائف رواية اللّموشي مع الملاحقات والمطاردات، تنكره واختفائه  في محافظة باجة (شمال غرب البلاد) تحت اسم مستعار وهو “عبد النور”، حيث ابتاع الرجل لنفسه مكتبة عند مدخل المدينة.

توجه “عبد النور” أو مختار اللّموشي وهو في سن الـ 25 نهائيا للعاصمة، ليواصل رحلة التنكر والاختفاء فاستعار صفة مراقب تذاكر بشركة النقل بعد أن  تمكن من تزوير أوراق مراقب وحصل على زي رسمي، فتعذر على البوليس السياسي التعرف عليه، ليواصل الاضطلاع بمهامه صلب تنظيمهم الاتجاه الإسلامي وهو مفتش عنه.

تم اعتقال مختار اللّموشي في أوج توتر علاقة الإسلاميين مع بورقيبة فحوكم في أيلول/سبتمبر 1987 بما يناهز 37 سنة سجن أغلبها أحكام غيابية نشرت بين المحاكم المدنية والعسكرية، ثم سرعان ما هوت جميعها عندما استولى بن علي على الحكم فغادر السجن في 7 تشرين الثاني/نوفمبر 1987.

استبشر شقٌ واسع من الإسلاميين حينها بحكم بن علي إلا أن اللّموشي كان من بين الشق الحذر من الحاكم الجديد باعتبار أن الوزير الأول لبورقيبة ووزير داخليته لا يمكن إلا أن يكون الوجه القمعي للطاغية. فبينما خُيرت القيادات التأقلم مع الوضع الجديد تمسك اللّموشي بأن بن علي اخطر من بورقيبة.

سرعان ما تحققت نبوءة اللموشي، لتنطلق رحلة الملاحقة من جديد، بعد دخول الحركة في صدام مع النظام في أكتوبر 1990. هذه المرحلة كانت مختلفة في حياة الرجل فقد تزوج، ليصبح الفرار والتنكر أصعب صحبة زوجته التي تعمل كمدرسة، ليتم اعتقاله في حزيران/ يونيو 1991 وتحويله إلى مركز الإيقاف “بوشوشة” في االعاصمة، لتبدأ رحلة التعذيب بألوانه.

حوكم سنة 1992 في المحكمة العسكرية بباب سعدون بالعاصمة وهو عاجز عن الحراك بسبب التعذيب والتنكيل، وصدرت أحكام بحقه ناهزت 5 سنوات، وعند اقتراب موعد الافراج عنه قدرت الأجهزة الأمنية بداية 1996 أن خروجه من السجن خطر على النظام، فاختلقوا له قضايا أخرى وحشروا فيها النائب نجيب حسني الذي يعمل كمحام بمحافظة الكاف، فحوكم حينها بـ8 سنوات أخرى.

الشهيد الحي

قرر مختار اللّموشي الدخول في إضراب “جوع” داخل السجن دام 113 يوما، نقل على إثره إلى 4 مستشفيات كبرى بالعاصمة وهو فاقد للوعي وتحت حراسة أمنية مشددة.

لا يذكر الرجل تفاصيلا كثيرا عن تلك الفترة إلاّ ما حدثه الأهل والأصحاب، بيد أن عفواً رئاسيا صدر سنة 1997 أسفر عن إطلاق سراحه، فسلّم السجانون عائلة اللموشي شبه جثة تتأرجح بين الحياة والموت. بل وظن زملائه في السجن أنه أخرج لأنه فارق الحياة، فصلّيت عليه صلاة الغائب (الجنازة) في جميع السجون التي تناقلت نبأ الوفاة وتسليم الجثمان.  

عفو بن علي أوقف تنفيذ الأحكام الملفقة وحفظت القضية، ووضع “الشهيد الحي” كما لقبوه تحت المتابعة الطبية المركزة لما يناهز السنة قبل أن يتماثل نسبيا للشفاء ليخضع من جديد للمراقبة الادارية والأمنية المشددة، فعزل عن العالم “فأصبحت الحياة سجنا كبيراً”، كما يقول.

مناهج التعذيب

يروي اللموشي بتأثر بالغ حتى يكفهر وجهه قصص التعذيب في سجون بورقيبة ومن بعده بن علي، “التعذيب منهجية والسجن سجون والعذاب عذابات، ولا أشد من عذاب السياسيين المعتقلين وخاصة الإسلاميين منهم”.

تبدأ رحلة التعذيب نفسيا ومعنويا قبل التعذيب الجسدي وذلك طيلة فترة الاستنطاق خلال الإيقاف ومن ثمة خلال المدة السجنيّة. اللّموشي مثلاً وضِع ما يقارب الشهر مقيدا فوق كرسي في بهو مركز الإيقاف يراقب المارين دون أن يحادثه شرطي أو يستجوبه آخر.

ثم تنطلق رحلة الضرب والركل والتنكيل وإحراق السجائر في مواضع حساسة من الجسد، ثم يقع افتكاك المصاحف ومنع الاحتكاك والحديث بين الإسلاميين ومنعهم من قراءة الجرائد والاطلاع على الأخبار.

ويذكر اللموشي أبشع ما تعرض له صحبة زملائه عند حلول موعد زيارة أهله، إذ يشترط السجانون أن يخرج السجين لأهله عاري الجسد، ويأمرونه قبل ذلك بأن ينحني فيولجون عصا في دبره، “إلا أن السجناء اعتصموا رفضا لهذه الطريقة المهينة وحرموا من لقاء أهلهم إثرها”.

صفحة من الماضي

بكثير من الأسى والحرقة يتحدث اللموشي عن زملائه من الإسلاميين الذين انتهكت أعراضهم حيث تم الاعتداء عليهم أمام أزواجهم وزوجاتهم جنسيا، “وهناك من تم إجهاضها وهي على مشارف الولادة بركلها على بطنها”.

وحول مساهمته في مناهضة التعذيب وتجريم انتهاك حقوق الإنسان من موقعه، خاصة وأن حزبه تعلقت به شبهات المشاركة في انتهاكات مُماثلة، قال إن “لا أحد يمكن أن يعرف المعنى الحقيقي للتعذيب إلا إذا ذاقه، كما لا يمكن أن ندرك قيمة الحرية إلا اذا فقدناها”.

ويقول النائب مختار اللّموشي إنه “لو أراد الإسلاميون الانتقام لفعلوا خاصة في فترة الفراغ والفوضى التي عرفتها تونس غداة الثورة حيث كان الوشاة والسجانون وأزلام النظام البائد على مرمى من أعيننا ومن أيدينا، لكننا اختارنا سبيل السلمية والمصالحة وطريق العدالة الانتقالية التي نعلق عليها آمال كبيرة”.

أما  النائب الغرسلي، القاضي السابق الذي حكم على اللموشي بالحبس، والذي يجلس حالياً إلى جانبه على مقعد واحد تحت قبة البرلمان (المجلس التأسيسي)، فيرفض اعتبار نفسه مذنبا، ويقول “إن ما حصل كان صفحة من الماضي، لا أريد الخوض فيها من جديد ولا تقليب تفاصيلها”.

لكن الغرسلي يعود ويستدرك إنه عند محاكمة مجموعة المنتمين للاتجاه الإسلامي، كان يومها من بين أصغر القضاة الجالسين حيث لم تتجاوز تجربته المهنيّة في القضاء سبعة أشهر، وأنه لم يكن يعرف مختار اللّموشي الذي وجهت له مجموعة تهم كتكوين جمعية غير مرخص فيها وتوزيع منشورات والاجتماع والإعداد لمقر غير مرخص.

بل إن القاضي السابق يرى أن كان له الشرف رغم صغر سنه في التخفيف من العقوبات بحق اللموشي، مؤكدا على أنه لم يكن يوماً أداة في يد النظام السابق، “بل حاولت تطبيق القانون بحذافره والحكم بما ثبت أمامي من أدلة وبراهين، مما يستوجب الشكر من اللّموشي” على حد قوله.