عند دخولك إلى صالة “تياترو” بالعاصمة تونس، تستقبلك لوحة يتحلق حولها مجموعة من الزوار. شبح ٌ رماديّ غير واضح المعالم، أصلع الرأس، شاحب المحيى، غائر العينين، حادّ النظرات، حبيسٌ  في خطوطه، لا تكادُ تلمحُ حوله سوى أطياف أخرى من تدرج ضوئي للأبيض والأسود.

“اللوحة تحمل اسم “الطيف” وهي تختزل سنوات من الجلد والتحدي”. كان شاب يتكلم بصوت مرتفع إلى أحد الواقفين عندها.

اقتربت منه وحاولت الاستفسار أكثر عن قصة اللوحة، فنصحني بالبحث عن وردة عافي، صاحبة المعرض، وصاحبة مرض خبيث أرادت أن تحاصره من خلال الرسم.

عند دخولك إلى صالة “تياترو” بالعاصمة تونس، تستقبلك لوحة يتحلق حولها مجموعة من الزوار. شبح ٌ رماديّ غير واضح المعالم، أصلع الرأس، شاحب المحيى، غائر العينين، حادّ النظرات، حبيسٌ  في خطوطه، لا تكادُ تلمحُ حوله سوى أطياف أخرى من تدرج ضوئي للأبيض والأسود.

“اللوحة تحمل اسم “الطيف” وهي تختزل سنوات من الجلد والتحدي”. كان شاب يتكلم بصوت مرتفع إلى أحد الواقفين عندها.

اقتربت منه وحاولت الاستفسار أكثر عن قصة اللوحة، فنصحني بالبحث عن وردة عافي، صاحبة المعرض، وصاحبة مرض خبيث أرادت أن تحاصره من خلال الرسم.

للوهلة الأولى بدا لي اهتمام الشاب المبالغ به نوعاً من العطف أو الشفقة، مردّه مرض الفنانة، لكني أدركت سريعا أن لوحة “الطيف” لن تكون إلا طيفاً قريبا لهذه الشابة، ابنة الـ 28 عاماً، التي ترسم وتحفر على النحاس والخشب، لكنها على ما يبدو، تحفر أولاً وقبل كل شيء قصة صراع طويل.

تقول وردة إن اللوحة المعروضة، والتي أثارت اهتمام الزائرين والصحافة هي انعكاس صورتها كما ترى نفسها، وكما رآها من هم حولها غداة اكتشاف اصابتها بسرطان الثدي. “هي وثيقة شخصية، عن صورة أولئك الذين يصارعون الموت”، تهمس بصوت خجول وكأنها تفسد عليك متعة أن تعرف بنفسك.

تنحدر وردة من قرية فقيرة في سيدي بوزيد (وسط غرب تونس)، من عائلة مكونة من 12 فرد. بقيت في تلك القرية إلى حين انتقالها قبل سنوات لدراسة الفنون الجميلة في نابل، لكنها سرعان ما استفاقت من أحلامها الوردية على كابوس قلب حياتها رأسا على عقب، لتنطلق رحلة مرض السرطان والتداوي والألم من سنة 2010.  

من ينظر إلى وردة من بعيد وهي جالسة تتحدث لن يدرك ما ألمّ بها خلال سنوات من المرض. سوف تلفته من حيث لا يدري ابتسامتها التي بالكاد تفارق وجهها.

كان طريق الرحلة طويلا -تقول- أجرت خلاله خمس عمليات جراحية، وحاولت مطاردة الورم الذي انتشر في الثدي والرحم والدماغ، أسقط شعرها وانقص من وزنها.

“منذ اليوم الأول تملكني قرار داخلي بألا استسلم”، تضيف وقد ارتفع صوتها فجأة.”تغلّب علي مرات وهزمته مرّات، وكانت النتيجة معرضاً فنيا يضم مجموعة من اللوحات بعنوان التحدي”.

“المرأة الحديدية” كما يلقبها زملاؤها وأصدقاؤها، ما كان بوسعها أن تواصل التحدي لولا دعم أستاذها الفنان نبيل الصوابي والفنان باكر بن فرج رئيس اتحاد الفنانين التشكيليين التونسيين، ولولا كلمات طيبة من متضامنين مع معركتها، منهم الشاعر التونسي ناجي الحجلاوي الذي كتب قصيدة تحمل عنوان “وردة الموت” قال فيها: سليلة ورد عفا وانتفى/ في طريق المنى العارية/بلدة شاحبة كم تلوك الليالي/ وتمضي إلى الراحة الغائبة/أنبتت وردة عافية/كم تخط بلون وترسو برسم إلى قبلة شافية”.

رحلة وردة اليومية مع المرض والإبداع والتداوي جسده المخرج التونسي محمود الجمني في فيلم وثائقي قصير بعنوان “عشق الحياة”، اختارته وردة من بين مخرجين كثر عرضوا عليها إنجاز وثائقي يسرد قصتها.

يرى محمود الجمني في هذه الفنانة الشابة “أنموذجا لنساء تونس، في صلابتها وقوتها وتحديها للواقع وللمألوف، وفي انتفاضتها على المجتمع الذي يتنكر للمصابين بمثل هذا المرض”.

في أحد مشاهد الفيلم تقف وردة بين لوحاتها وهي صلعاء، تتأمل أقربها إلى قلبها؛ لوحة “الطيف” الذي يصارع السواد من حوله. الطيف كان يصارع وحشا خبيثا وفتاكا، وكأنه مشهد من الانتيكا الإغريقية وصراع الآلهة على الظفر بمخلوقاتهم. لكنه في الحقيقة مشهد من عالم اليوم، بل من تونس، نجحت عبره وردة في تعليم زوار هذا المعرض الكثير من الدروس.